فصل: تفسير الآية رقم (26)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الألوسي المسمى بـ «روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني» ***


تفسير الآية رقم ‏[‏26‏]‏

‏{‏يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ ‏(‏26‏)‏‏}‏

‏{‏مَئَابٍ ياداوود إِنَّا جعلناك خَلِيفَةً فِى الارض‏}‏ إما حكاية لما خوطب به عليه السلام مبنية لزلفاه عنده عز وجل وإما مقول لقول مقدر معطوف على ‏{‏غفرنا‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 25‏]‏ أو حال من فاعله أي وقلنا له أو قائلين له يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض أي استخلفناك على الملك فيها والحكم فيما بين أهلها أو جعلناك خليفة ممن قبلك من الأنبياء القائمين بالحق، وهو على الأول‏:‏ مثل فلان خليفة السلطان إذا كان منصوباً من قبله لتنفيذ ما يريده، وعلى الثاني‏:‏ من قبيل هذا الولد خليفة عن أبيه أي ساد مسده قائم بما كان يقوم به من غير اعتبار لحياة وموت وغيرهما، والأول أظهر والمنة به أعظم فهو عليه السلام خليفة الله تعالى بالمعنى الذي سمعت، قال ابن عطية‏:‏ ولا يقال خليفة الله تعالى إلا لرسوله وأما الخلفاء فكل واحد منهم خليفة من قبله، وما يجىء في الشعر من تسمية أحدهم خليفة الله فذلك تجوز كما قال قيس الرقيات‏:‏ خليفة الله في بريته *** جفت بذاك الأفلام والكتب

وقالت الصحابة لأبي بكر‏:‏ خليفة رسول الله وبذلك كان يدعي إلى أن توفي فلما ولي عمر قالوا خليفة خليفة رسول الله فعدل عنه اختصاراً إلى أمير المؤمنين‏.‏ وذهب الشيخ الأكبر محيي الدين قدس سره إلى أن الخليفة من الرسل من فوض إليه التشريع ولعله من جملة اصطلاحاته ولا مشاحة في الاصطلاح، واستدل بعضهم بالآية على احتياج الأرض إلى خليفة من الله عز وجل وهو قول من أوجب على الله تعالى نصب الإمام لأنه من اللطف الواجب عليه سبحانه، والجماعة لا يقولون بذلك والإمامة عندهم من الفروع وإن ذكروها في كتب العقائد، وليس في الآية ما يلزم منه ذلك كما لا يخفى وتحقيق المطلب في محله ‏{‏الارض فاحكم بَيْنَ الناس بالحق‏}‏ الذي شرعه الله تعالى لك فالحق خلاف الباطل وأل فيه للعهد، وجوز أن يراد به ما هو من أسمائه تعالى أي بحكم الحق أي الله عز وجل للعلم بأن الذوات لا يكون محكوماً بها‏.‏ وتعقب بأن مقابلته بالهوى تأبى ذلك، ولعل من يقول به يجعل المقابل المضاف المحذوف والمقابلة باعتبار أن حكم الله تعالى لا يكون إلا بالحق، وفرع الأمر بالحكم بالحق على ما تقدم لأن الاستخلاف بكلا المعنيين مقتض للحكم العدل لا سيما على المعنى الأول لظهور اقتضاء كونه عليه السلام خليفة له تعالى أن لا يخالف حكمه حكم من استخلفه بل يكون على وفق إرادته ورضاه‏.‏

وقيل المترتب مطلق الحكم لظهور ترتبه على كونه خليفة‏.‏ وذكر الحق لأن به سداده، وقيل ترتب ذلك لأن الخلافة نعمة عظيمة شكرها العدل‏.‏

وفي «البحر» أن هذا أمر بالديمومة وتنبيه غليره ممن ولي أمور الناس أن يحكم بينهم بالحق وإلا فهو من حيث أنه معصوم لا يحكم إلا بالحق، وعلى نحو هذا يخرج النهي عندي في قوله سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَتَّبِعِ الهوى‏}‏ فإن اتباع الهوى مما لا يكاد يقع من المعصوم‏.‏ وظاهر السياق أن المراد ولا تتبع هوى النفس في الحكومات، وعمم بعضهم فقال‏:‏ أي في الحكومات وغيرها من أمور الدين والدنيا‏.‏

وأيد بهذا النهي ما قيل إن ذنبه عليه السلام المبادرة إلى تصديق المدعي وتظليم الآخر قبل مساءلته لا الميل إلى امرأة أوريا فكأنه قيل ولا تتبع الهوى في الحكم كما اتبعته أولاً، وفيه أن اتباع الهوى وحكمه بغير ما شرع الله تعالى له غير مناسب لمقامه لا سيما وقد أخبر الله تعالى قبل الإخبار بمسألة المتحاكمين أنه أتاه الحكم وفصل الخطاب فليس هذا إلا إرشاداً لما يقتضيه منصب الخلافة وتنبيهاً لمن هو دونه عليه السلام، وأصل الهوى ميل النفس إلى الشهوة، ويقال للنفس المائلة إليها ويكون بمعنى المهوى كما في قوله‏:‏

هواي مع الركب اليمانين مصعد *** جنيب وجثماني بمكة موثق

وبه فسره هنا بعضهم فقال‏:‏ أي لا تتبع ما تهوى الأنفس ‏{‏فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ الله‏}‏ بالنصب على أنه جواب النهي، وقيل هو مجزوم بالعطف على النهي مفتوح لالتقاء الساكنين أي فيكون الهوى أو اتباعه سبباً لضلالك عن دلائله التي نصبها على الحق وهي أعم من الدلائل العقلية والنقلية، وصد ذلك عن الدلائل إما لعدم فهمها أو العمل بموجبها، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الذين يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ الله لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدُ‏}‏ تعليل لما قبله ببيان غائلته وإظهار سبيل الله في موضع الإضمار لزيادة التقرير والإيذان بكمال شناعة الضلال عنه، وخبر إن إما جملة ‏{‏لَهُمْ عَذَابَ‏}‏ على أن ‏{‏لَهُمْ‏}‏ خبر مقدم وعذاب مبتدأ وأما الظرف وعذاب مرتفع على الفاعلية بما فيه من الاستقرار‏.‏

وقرأ ابن عباس‏.‏ والحسن بخلاف عنهما‏.‏ وأبو حيوة ‏{‏يُضِلُّونَ‏}‏ بضم الياء قال أبو حيان‏:‏ وهذه القراءة أعم لأنه لا يضل إلا ضال في نفسه، وقراءة الجمهور أوضح لأن المرادب الموصول من أضلهم اتباع الهوى وهم بعد أن أضلهم صاروا ضالين‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏بِمَا نَسُواْ‏}‏ متعلق بالاستقرار والباء سببية وما مصدرية، وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏يَوْمِ الحساب‏}‏ مفعول ‏{‏نَسُواْ‏}‏ على ما هو الظاهر أي ثابت لهم ذلك العذاب بسبب نسيانهم وعدم ذكرهم يوم الحساب؛ وعليه يكون تعليلاً صريحاً لثبوت العذاب الشديد لهم بنسيان يوم الحساب بعد الإشعار بعلية ما يستتبعه ويستلزمه أعني الضلال عن سبيل الله تعالى فإنه مستلزم لنسيان يوم الحساب بالمرة بل هذا فرد من أفراده‏.‏

وأخرج ابن جرير عن عكرمة أن الكلام من التقديم والتأخير أي لهم يوم الحساب عذاب شديد بما نسوا فيكون يوم الحساب ظرفاً لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَهُمْ‏}‏ وجعل النسيان عليه مجازاً عن ضلالهم عن سبيل الله بعلاقة السببية ومن ضرورته جعل مفعول النسيان سبيل الله تعالى، وعليه يكون التعليل المصرح به عين التعليل المشعر به بالذات غيره بالعنوان فتدبر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏27‏]‏

‏{‏وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ ‏(‏27‏)‏‏}‏

‏{‏وَمَا خَلَقْنَا السماء والارض وَمَا بَيْنَهُمَا باطلا‏}‏ أي خلقاً باطلاً فهو منصوب على النيابة عن المفعول المطلق نحو كل هنيئاً أي أكلاً هنيئاً، والباطل ما لا حكمة فيه، وجوز كونه حالاً من فاعل ‏{‏خَلَقْنَا‏}‏ بتقدير مضاف أي ذوي باطل، والباطل اللعب والعبث أي ما خلقنا ذلك مبطلين لاعبين كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا خَلَقْنَا السموات والارض *وَمَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ‏}‏ ‏[‏الدخان‏:‏ 38‏]‏ وجوز كونه حالاً من المفعول أيضاً بنحو هذا التأويل، وأياً ما كان فالكلام مستأنف مقرر لما قبله من أمر المعاد والحساب فإن خلق السماء والأرض وما بينهما من المخلوقات مشتملاً على الحكم الباهرة والأسرار البالغة والفوائد الجمة أقوى دليل على عظم القدرة وأنه لا يتعاصاها أمر المعاد والحساب فإن خلق ذلك كذلك مؤذن بأنه عز وجل لا يترك الناس إذا ماتوا سدى بل يعيدهم ويحاسبهم ولعله الأولى‏.‏

وجوز كون الجملة في موضع الحال في فاعل ‏{‏نَسُواْ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 26‏]‏ جىء بها لتفظيع أمر النسيان كأنه قيل‏:‏ بما نسوا يوم الحساب مع وجود ما يؤذن به وهو كما ترى، وجوز كون ‏{‏باطلا‏}‏ مفعولاً له ويفسر بخلاف الحق ويراد به متابعة الهوى كأنه قيل‏:‏ ما خلقنا هذا العالم للباطل الذي هو متابعة الهوى بل للحق الذي هو مقتضى الدليل من التوحيد والتدرع بالشرع كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 56‏]‏ ولا يخفى بعده، وعليه تكون الجملة مستأنفة لتقرير أمر النهي عن اتباع الهوى، وقيل‏:‏ تكون عطفاً على ما قبلها بحسب المعنى كأنه قيل‏:‏ لا تتبع الهوى لأنه يكون سبباً لضلالك ولأنه تعالى لم يخلق العالم لأجل متابعة الهوى بل خلقه للتوحيد والتمسك بالشرع فلا تغفل‏.‏

‏{‏ذلك‏}‏ إشارة إلى ما نفى من خلق ما ذكر باطلاً ‏{‏ظَنُّ الذين كَفَرُواْ‏}‏ أي مظنونهم ليصح الحمل أو يقدر مضاف أي ظن ذلك ظن الذين كفروا فإن إنكارهم المعاد والجزاء قول بأن خلق ما ذكر خال عن الحكمة وإنما هو عبث ولذا قال سبحانه‏:‏ ‏{‏أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خلقناكم عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 115‏]‏ أو فإن إنكارهم ذلك قول بنفي عظم القدرة وهو قول بنفي دليله وهو خلق ما ذكر مشتملاً على الحكم الباهرة والإسرار، وهذا بناءً على الوجه الأول في بيان التقرير وهو كما ترى ‏{‏فَوَيْلٌ لّلَّذِينَ كَفَرُواْ‏}‏ مبتدأ وخبر والفاء لإفادة ترتب ثبوت الويل لهم على ظنهم الباطل كما أن وضع الموصول موضع ضميرهم لإشعار ما في حيز الصلة بعلية كفرهم له، ولا تنافي بينهما لأن ظنهم من باب كفرهم فيتأكد أمر التعليل، و‏{‏مِنْ‏}‏ في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مِنَ النار‏}‏ ابتدائية أو بيانية أو تعليلية كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَوَيْلٌ لَّهُمْ مّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 79‏]‏ ونظائره وتفيد على هذا علية النار لثبوت الويل لهم صريحاً بعد الإشعار بعلية ما يؤدى إليها من ظنهم وكفرهم أي فويل لهم بسبب النار المترتبة على ظنهم وكفرهم، قيل والكلام عليه على تقدير مضاف أي من دخول النار‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏28‏]‏

‏{‏أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ ‏(‏28‏)‏‏}‏

‏{‏أَمْ نَجْعَلُ الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات كالمفسدين فِى الارض‏}‏ أم منقطعة وتقدر ببل والهمزة، والهمزة لإنكار التسوية بين الفريقين ونفيها على أبلغ وجه وآكده، وبل للإضراب الانتقالي من تقرير أمر البعث والحساب بما مر من نفي خلق العالم باطلاً إلى تقريره وتحقيقه بإنكار التسوية بين الفريقين أي بل أنجعل المؤمنين المصلحين كالكفرة المفسدين في الأرض التي جعلت مقراً له كما يقتضيه عدم البعث وما يترتب عليه من الجزاء لاستواء الفريقين في التمتع في الحياة الدنيا بل أكثر الكفرة أوفر حظاً منها من أكثر المؤمنين لكن ذلك الجعل محال مخالف للحكمة فتعين البعث والجزاء حتماً لرفع الأولين إلى أعلى عليين ورد الآخرين إلى أسفل سافلين كذا قالوا، وظاهره أن محالية جعل الفريقين سواء حكمة تقتضي تعين المعاد الجسماني، وفيه خفاء، والظاهر أن المعاد الروحاني يكفي لمقتضى الحكمة من إثابة الأولين وتعذيب الآخرين فالدليل العقلي الذي تشير إليه الآية ظاهر في إثبات معاد لكن بعد إبطال التناسخ وهو كاف في الرد على كفرة العرب فإنهم لا يقولون بمعاد بالكلية ولم يخطر ببالهم التناسخ أصلاً، ولإثبات المعاد الجسماني طريق آخر مشهور بين المتكلمين، وجعل هذا الدليل العقلي طريقاً لإثباته يحتاج إلى تأمل فتأمل، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَمْ نَجْعَلُ المتقين كالفجار‏}‏ إضراب وانتقال عن إثبات ما ذكر بلزوم المحال الذي هو التسوية بين الفريقين المذكورين على الإطلاق إلى إثباته بلزوم ما هو أظهر منه استحالة وهي التسوية بين أتقياء المؤمنين وأشقياء الكفرة، وحمل الفجار على فجرة المؤمنين مما لا يساعده المقام، ويجوز أن يراد بهذين الفريقين عين الأولين ويكون التكرير باعتبار وصفين آخرين هما أدخل في إنكار التسوية من الوصفين الأولين، وأياً ما كان فليس المراد من الجمعين في الموضعين أناساً بأعيانهم ولذا قال ابن عباس‏:‏ الآية عامة في جميع المسلمين والكافرين‏.‏

وقيل‏:‏ هي في قوم مخصوصين من مشركي قريش قالوا للمؤمنين إنا نعطي في الآخرة من الخير ما لا تعطون فنزلت، وأنت تعلم أن العبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب، وفي رواية أخرى عن ابن عباس أخرجها ابن عساكر أنه قال‏:‏ الذين آمنوا علي‏.‏ وحمزة‏.‏ وعبيدة بن الحرث رضي الله تعالى عنهم والمفسدين في الأرض عتبة‏.‏ والوليد بن عتبة‏.‏ وشيبة وهم الذين تبارزوا يوم بدر، ولعله أراد أنهم سبب النزول

‏[‏بم وقوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏29‏]‏

‏{‏كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آَيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ ‏(‏29‏)‏‏}‏

‏{‏كتاب‏}‏ خبر مبتدأ محذوف هو عبارة عن القرآن أو السورة، ويجوز على الثاني تقديره مذكراً أي هو أو هذا وهو الأولى عند جمع رعاية للخبر وتقديره مؤنثاً رعاية للمرجع، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أنزلناه إِلَيْكَ‏}‏ صفته، وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏مُّبَارَكٌ‏}‏ أي كثير المنافع الدينية والدنيوية خبر ثان للمبتدأ أو صفة ‏{‏كِتَابٌ‏}‏ عند من يجوز تأخير الوصف الصريح عن غيرا لصريح‏.‏ وقرىء ‏{‏مُبَارَكاً‏}‏ بالنصب على أنه حال من مفعول ‏{‏أَنزَلْنَا‏}‏ وهي حال لازمة لأن البركة لا تفارقه جعلنا الله تعالى في بركاته ونفعنا بشريف آياته، وقوله عز وجل‏:‏ ‏{‏لّيَدَّبَّرُواْ ءاياته‏}‏ متعلق بأنزلناه، وجوز أن يكون متعلقاً بمحذوف يدل عليه وأصله ليتدبروا بتاء بعد الياء آخر الحروف، وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه بهذا الأصل أي أنزلناه ليتفكروا في آياته التي من جملتها هذه الآيات المعربة عن أسرار التكوين والتشريع فيعرفوا ما يدبر ويتبع ظاهرها من المعاني الفائقة والتأويلات اللائقة، وضمير الرفع لأولي الألباب على التنازع واعمال الثاني أو للمؤمنين فقط أو لهم وللمفسدين، وقرأ أبو جعفر ‏{‏لتدبروا‏}‏ بتاء الخطاب وتخفيف الدال وجاء كذلك عن عاصم‏.‏ والكسائي بخلاف عنهما، والأصل لتتدبروا بتاءين فحذفت إحداهما على الخلاف الذي فيها أهي تاء المضارعة أم التاء التي تليها، والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وعلماء أمته على التغليب أي لتدبر أنت وعلماء أمتك ‏{‏إِلاَّ أُوْلُواْ الالباب‏}‏ أي وليتعظ به ذوو العقول الزاكية الخالصة من الشوائب أو ليستحضروا ما هو كالمركوز في عقولهم لفرط تمكنهم من معرفته لما نصب عليه من الدلائل فإن إرسال الرسل وإنزال الكتب لبيان ما لا يعرف إلا من جهة الشرع كوجوب الصلوات الخمس والإرشاد إلى ما يستقل العقل بإدراكه كوجود الصانع القديم جل جلاله وعم نواله‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏30‏]‏

‏{‏وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ ‏(‏30‏)‏‏}‏

‏{‏وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سليمان نِعْمَ العبد‏}‏ وقرىء ‏{‏نِعْمَ‏}‏ على اوصل، والمخصوص بالمدح محذوف أي نعم العبد هو أي سليمان كما ينبىء عنه تأخيره عن داود مع كونه مفعولاً صريحاً لوهبنا ولأن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّهُ أَوَّابٌ‏}‏ أي رجاع إلى الله تعالى بالتوبة كما يشعر به السياق أو إلى التسبيح مرجع له أو إلى مرضاته عز وجل تعليل للمدح وهو من حاله لما أن الضمير المجرور في قوله سبحانه‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏31‏]‏

‏{‏إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ ‏(‏31‏)‏‏}‏

‏{‏إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ‏}‏ يعود إليه عليه السلام قطعاً، وإذ منصوب باذكر، والمراد من ذكر الزمان ذكر ما وقع فيه أو ظرف لأواب أو لنعم والظرف قنوع لكن يرد على الوجهين أن التقييد يخل بكمال المدح فالأول أولى وهو كالاستشهاد على أنه أواب أي اذكر ما صدر عنه إذ عرض عليه ‏{‏بالعشى‏}‏ الخ فإنه يشهد بذلك، والعشي على ما قال الراغب من زوال الشمس إلى الصباح، وقال بعض‏:‏ منه إلى آخر النهار، والظرفان متعلقان بعرض، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏الصافنات‏}‏ نائب الفاعل وتأخيره عنهما لما مر غير مرة من التشويق إلى المؤخر، والصافن من الخيل الذي يرفع إحدى يديه أو رجليه ويقف على مقدم حافرها وأنشد الزجاج‏:‏ ألف الصفون فما يزال كأنه *** مما يقوم على الثلاث كثيراً

وقال أبو عبيدة‏:‏ هو الذي يجمع يديه ويسويهما وأما الذي يقف على طرف الحافر فهو المتخيم، وعن التهذيب ومتن اللغة هو المخيم، وقال القتبي الصافن الواقف في الخيل وغيرها، وفي الحديث «من سره أن يقوم الناس له صفونا فليتبوأ مقعده من النار» أي يديمون له القيام حكاه قطرب وأنشد للنابغة‏:‏ لنا قبة مضروبة بفنائها *** عتاق المهاري والجياد الصوافن

وقال الفراء‏:‏ رأيت العرب على هذا وأشعارهم تدل على أنه القيام خاصة والمشهور في الصفوف ما تقدم وهو من الصفات المحمودة في الخيل لا تكاد تتحقق إلا في العرب الخلص ‏{‏الجياد‏}‏ جمع جواد للذكر والأنثى يقال جاد الفرس صار رائضاً يجود جودة بالضم وهو جواد ويجمع أيضاً على أجواد وأجاويد، وقال بعضهم‏:‏ هو جمع جود كثوب وأثواب وفسر بالذي يسرع في مشيه، وقيل هو الذي يجود بالركض، وقيل‏:‏ وصفت بالصفون والجودة لبيان جمعها بين الوصفين المحمودين واقفة وجارية أي إذا وقفت كانت ساكنة مطمئنة في مواقعها وإذا جرت كانت سراعاً خفافاً في جريها، والخيل تمدح بالسكون في الموقف كما تمدح بالسرعة في الجري، ومن ذلك قول مسلم بن الوليد‏:‏ وإذا احتبى قربوسه بعنانه *** علك الشكيم إلى انصراف الزائر

وقيل جيد ككيس ضد الردىء ويجمع على جيادات وجيائد، وضعف بأنه لا فائدة في ذكره مع ‏{‏الصافنات‏}‏ حينئذٍ وبأنه يفوت عليه مدح الخيل باعتبار حاليها وكون الجياد أعم فذكره تعميم بعد تخصيص فيه نظر‏.‏

وفي «البحر» قيل الجياد الطوال الأعناق من الجيد وهو العنق، وأنا في شك من ثبوته، قال في «القاموس»‏:‏ الجيد بالكسر العنق أو مقلده أو مقدمه جمعه أجياد وجيود وبالتحريك طولها أو دقتها مع طول وهو أجيد وهي جيداء وجيدانة جمعه جود اه، وراجعت غيره فلم أجد فيه زيادة على ذلك فلينقر، ويمكن أن يقال‏:‏ أن الجياد جمع شاذ لأجيد أو جيداء أو جيدانة أو هو جمع لجيد بالتحريك كجعل وجمال ويراد بجيد أجيد أو نحوه نظير ما يراد بالخلق المخلوق والله تعالى أعلم، وأياً ما كان فالوصفان يوصف بهما المذكر والمؤنث من الخيل، والجمع بألف وتاء لا يخص المؤنث فلا حاجة بعد القول بأن ما عرض كان مشتملاً على ذكور الخيل وإناثها إلى القول بأن في الصافنات تغليب المؤنث على المذكر وأنه يجوز بقلة، وأريد بالجمع هنا الكثرة فعن الكلبي أن هذه الخيل كانت ألف فرس غزا سليمان عليه السلام دمشق ونصيبين فأصابها‏.‏

واستشكلت هذه الرواية بأن الغنائم لم تحل لغير نبينا صلى الله عليه وسلم كما ورد في الحديث الصحيح‏.‏ وأجيب بأنه يحتمل أن تكون فيئاً لا غنيمة، وعن مقاتل أنها ألف فرس ورثها من أبيه داود وكان عليه السلام قد أصابها من العمالقة وهم بنو عمليق بن عوص بن عاد بن ارم‏.‏

واستشكلت هذه زيادة على الأولى بأن الأنبياء عليهم السلام لا يورثون كما جاء في الحديث الذي رواه أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه محتجاً به في مسألة فدك والعوالي بمحضر الصحابة وهم الذين لا تأخذهم في الله لومة لائم‏.‏

وأجيب بأن المراد بالإرث حيازة التصرف لا الملك، وعقرها تقرباً على ما في الأوجه في الآية بعد وجاء في بعض الروايات لا يتقضي الملك، وقال عوف‏:‏ بلغني أنها كانت خيلاً ذات أجنحة أخرجت له من البحر لم تكن لأحد قبله ولا بعده، وروي كونها كذلك عن الحسن، وأخرج ابن جرير وغيره عن إبراهيم التيمي أنها كانت عشرين ألف فرس ذات أجنحة، وليس في هذا شيء سوى الاستبعاد، وإذا لم يلتفت إلى الأخبار في ذلك إذ ليس فيها خبر صحيح مرفوع أو ما في حكمه يعول عليه فيما أعلم فلنا أن نقول‏:‏ هي خيل كانت له كالخيل التي تكون عند الملوك وصلت إليه بسبب من أسباب الملك فاستعرضها فلم تزل تعرض عليه حتى غربت الشمس، قيل وغفل عن صلاة العصر، وحكى هذا الطبرسي عن علي كرم الله تعالى وجهه‏.‏ وقتادة‏.‏ والسدي ثم قال‏:‏ وفي روايات أصحابنا أنه فات أول الوقت‏.‏ وقال الجبائي‏:‏ لم يفته الفرض وإنما فاته نفل كان يفعله آخر النهار‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏32‏]‏

‏{‏فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ ‏(‏32‏)‏‏}‏

‏{‏فَقَالَ إِنّى أَحْبَبْتُ حُبَّ الخير عَن ذِكْرِ رَبِى‏}‏ قاله عليه السلام اعترافاً بما صدر عنه من الاشتغال وندماً عليه وتمهيداً لما يعقبه من الأمر بردها وعقرها على ما هو المشهور، والخير كثر استعماله في المال ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِن تَرَكَ خَيْرًا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 180‏]‏ وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ الله بِهِ عَلِيمٌ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 273‏]‏ وقوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَإِنَّهُ لِحُبّ الخير لَشَدِيدٌ‏}‏ ‏[‏العاديات‏:‏ 8‏]‏ وقال بعض العلماء‏:‏ لا يقال للمال خير حتى يكون كثيراً ومن مكان طيب كما روي أن علياً كرم الله تعالى وجهه دخل على مولى له فقال‏:‏ ألا أوصي يا أمير المؤمنين‏؟‏ قال، لا لأن الله تعالى يقول‏:‏ ‏{‏إِن تَرَكَ خَيْرًا‏}‏ وليس لك مال كثير، وروى تفسيره بالمال هنا عن الضحاك‏.‏ وابن جبير، وقال أبو حيان‏:‏ يراد بالخير الخيل والعرب تسمى الخيل الخير، وحكي ذلك عن قتادة‏.‏ والسدي، ولعل ذلك لتعلق الخير بها، ففي الخبر «الخيل معقود بنواصيها الخير إلى يوم القيامة» والأحباب على ما نقل عن الفراء مضمن معنى الإيثار وهو ملحق بالحقيقة لشهرته في ذلك، وظاهر كلام بعضهم أنه حقيقة فيه فهو مما يتعدى بعلى لكن عدى هنا بعن لتضمينه معنى الإنابة ‏{‏وَحَبَّ الخير‏}‏ مفعول به أي آثرت حب الخير منيباً له عن ذكر ربي أو أنبت حب الخير عن ذكر ربي مؤثراً له‏.‏

وجوز كون ‏{‏حُبَّ‏}‏ منصوباً على المصدر التشبيهي ويكون مفعول ‏{‏أَحْبَبْتُ‏}‏ محذوفاً أي أحببت الصافنات أو عرضها حباً مثل حب الخير منيباً لذلك عن ذكر ربي، وليس المرادب الخير عليه الخيل وذكر أبو الفتح الهمداني أن أحببت بمعنى لزمت من قوله‏:‏ ضرب بعير السوء إذ أحبا *** واعترض بأن أحب بهذا المعنى غريب لم يرد إلا في هذا البيت وغرابة اللفظ تدل على اللكنة وكلام الله عز وجل منزه عن ذلك، مع أن اللزوم لا يتعدى بعن إلا إذا ضمن معنى يتعدى به أو تجوز به عنه فلم يبق فائدة في العدول عن المعنى المشهور مع صحته أيضاً بالتضمين وجعل بعضهم الأحباب من أول الأمر بمعنى التقاعد والاحتباس وحب الخير مفعولاً لأجله أي تقاعدت واحتبست عن ذكر ربي لحب الخير‏.‏ وتعقب بأن الذي يدل عليه كلام اللغويين أنه لزوم عن تعب أو مرض ونحوه فلا يناسب تقاعد النشاط والتلهي الذي كان عليه السلام فيه وقول بعض الأجلة‏:‏ بعد التنزل عن جواز استعمال المقيد في المطلق لما كان لزوم المكان لمحبة الخيل على خلاف مرضاة الله تعالى جعلها من الأمراض التي تحتاج إلى التداوي بأضدادها ولذلك عقرها ففي ‏{‏أَحْبَبْتُ‏}‏ استعارة تبعية لا يخفى حسنها ومناسبتها للمقام ليس بشيء لخفاء هذه الاستعارة نفسها وعدم ظهور قرينتها، وبالجملة ما ذكره أبو الفتح مما لا ينبغي أن يفتح له باب الاستحسان عند ذوي العرفان، وجوز حمل ‏{‏أَحْبَبْتُ‏}‏، وجوز في عن كونها تعليلية وسيأتي إن شاء الله تعالى و‏{‏ذُكِرَ‏}‏ مضاف إلى مفعوله وجوز أن يكون مضافاً إلى فاعله‏.‏

وقيل الإضافة على معنى اللام ولا يراد بالذكر المعنى المصدري بل يراد به الصلاة فمعنى عن ذكر ربي عن صلاة ربي التي شرعها وهو كما ترى‏.‏

وبعض من جعل عن للتعليل فسر ذلك الرب بكتابه عز وجل وهو التوراة أي أحببت الخيل بسبب كتاب الله تعالى وهو التوراة فإن فيه مدح ارتباطها وروي ذلك عن أبي مسلم، وقرأ أبو جعفر‏.‏ ونافع‏.‏ وابن كثير‏.‏ وأبو عمرو ‏{‏إِنّى أَحْبَبْتُ‏}‏ بفتح الياء ‏{‏حتى تَوَارَتْ بالحجاب‏}‏ متعلق بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَحْبَبْتُ‏}‏ باعتبار استمرار المحبة ودوامها حسب استمرار العرض أي أنبت حب الخير عن ذكر ربي واستمر ذلك حتى غربت الشمس تشبيهاً لغروبها في مغربها بتواري المخباة بحجابها على طريق الاستعارة التبعية، ويجوز أن يكون هناك استعارة مكنية تخييلية وأياً ما كان فما أخرجه ابن المنذر‏.‏ وابن أبي حاتم‏.‏ وأبو الشيخ عن كعب، قال‏:‏ الحجاب هو حجاب من ياقوت أخضر محيط بالخلائق منه اخضرت السماء، وما قيل إنه جبل دون قاف بسنة تغرب الشمس وراءه لا يخفى حاله، والناس في ثبوت جبل قاف بين مصدق ومكذب والقرافي يقول لا وجود له وإليه أميل وإن قال المثبتون ما قالوا، والباء للظرفية أو الاستعانة أو الملابسة، وعود الضمير إلى الشمس من غير ذكر لدلالة العشي عليها، والضمير المنصوب في قوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏33‏]‏

‏{‏رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ ‏(‏33‏)‏‏}‏

‏{‏رُدُّوهَا عَلَىَّ‏}‏ للصافنات على ما قال غير واحد‏.‏

وظاهر كلامهم أنه للصافنات المذكور في الآية، ولعلك تختار أنه للخيل الدال عليها الحال المشاهدة أو الخير في قوله‏:‏ ‏{‏إِنّى أَحْبَبْتُ حُبَّ الخير‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 32‏]‏ لأن ردوها من تتمة مقالته عليه السلام والصافنات غير مذكورة في كلامه بل في كلام الله تعالى لنبينا صلى الله عليه وسلم، والكلام على ما قال الزمخشري على إضمار القول أي قال ردوها عليّ، والجملة مستأنفة استئنافاً بيانياً كأنه قيل‏:‏ فماذا قال سليمان‏؟‏ فقيل قال‏:‏ ردوها، وتعقبه أبو حيان بأنه لا يحتاج إلى الإضمار إذ الجملة مندرجة تحت حكاية القول في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَقَالَ إِنّى‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 32‏]‏ الخ؛ والفاء في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَطَفِقَ مَسْحاً‏}‏ فصيحة مفصحة عن جملة قد حذفت ثقة بدلالة الحال عليها وإيذاناً بغاية سرعة الامتثال بالأمر كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَقُلْنَا اضرب بّعَصَاكَ الحجر فانفجرت مِنْهُ اثنتا عَشْرَةَ عَيْنًا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 60‏]‏ أي فردوها عليه فطفق الخ وطفق من أفعال الشروع واسمها ضمير سليمان و‏{‏مَسْحاً‏}‏ مفعول مطلق لفعل مقدر هو خبرها أي شرع يمسح مسحاً لا حال مؤول بماسحاً كما جوزه أبو البقاء إذ لا بد لطفق من الخبر وليس هذا مما يسد الحال فيه مسده، وقرأ زيد بن علي ‏{‏مساحا‏}‏ على وزن قتال ‏{‏مَسْحاً بالسوق والاعناق‏}‏ أي بسوقها وأعناقها على أن التعريف للعهد وإن أل قائمة مقام الضمير المضاف إليه، والباء متعلقة بالمسح على معنى شرع يمسح السيف بسوقها وأعناقها، وقال‏:‏ جمع هي زائدة أي شرع يمسح سوقها وأعناقها بالسيف، ومسحته بالسيف كما قال الراغب‏:‏ كناية عن الضرب‏.‏

وفي «الكشاف» يمسح السيف بسوقها وأعناقها يقطعها تقول مسح علاوته إذا ضرب عنقه ومسح المسفر الكتاب إذا قطع أطرافه بسيفه، وعن الحسن كسف عراقيبها وضرب أعناقها أراد بالكسف القطع ومنه الكسف في ألقاب الزحاف والعروض ومن قاله بالشين المعجمة فمصحف، وكون المراد القطع قد دل عليه بعض الأخبار‏.‏

أخرج الطبراني في «الأوسط»‏.‏ والإسمعيلي في «معجمه»‏.‏ وابن مردويه بسند حسن عن أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَطَفِقَ مَسْحاً بالسوق والاعناق‏}‏ قطع سوقها وأعناقها بالسيف، وقد جعلها عليه السلام بذلك قرباناً لله تعالى وكان تقريب الخيل مشروعاً في دينه، ولعل كسف العراقيب ليتأتى ذبحها بسهولة، وقيل‏:‏ إنه عليه السلام حبسها في سبيل الله تعالى وكان ذلك المسح الصادر منه وسما لها لتعرف أنها خيل محبوسة في سبيل الله تعالى وهو نظير ما يفعل اليوم من الوسم بالنار ولا بأس به في شرعنا ما لم يكن في الوجه، ولعل عليه السلام رأى الوسم بالسيف أهون من الوسم بالنار فاختاره أو كان هو المعروف في تلك الإعصار بينهم، ويروى أنه عليه السلام لما فعل ذلك خر له الريح كرامة له، وقيل‏:‏ إنه عليه السلام أراد بذلك إتلافها حيث شغلته عن عبادة ربه عز وجل وصار تعلق قلبه بها سبباً لغفلته، واستدل بذلك الشبلي قدس سره على حل تحريق ثيابه بالنار حين شغلته عن ربه جل جلاله؛ وهذا قول باطل لا ينبغي أن يلتفت إليه وحاشا نبي الله أن يتلف مالاً محترماً لمجرد أنه شغل به عن عبادة وله سبيل لأن يخرجه عن ملكه مع نفع هو من أجل القرب إليه عز وجل على أن تلك الخيل لم يكن عليه السلام اقتناها واستعرضها بطراً وافتخاراً معاذ الله تعالى من ذلك وإنما اقتناها للانتفاع بها في طاعة الله سبحانه واستعرضها للتطلع على أحوالها ليصلح من شأنها ما يحتاج إلى إصلاح وكل ذلك عبارة فغاية ما يلزم عليه السلام نسى عبادة لشغله بعبادة أخرى فاستدلال الشبلي قدس سره غير صحيح، وقد نبه أيضاً على عدم صحته عبد الوهاب الشعراني من السادة الصوفية في كتابه اليواقيت والجواهر في عقائد الأكابر ولكن بحمل الآية على محمل آخر، وما ذكرناه في محمولها وتفسيرها هو المشهور بين الجمهور ولهم فيها كلام غير ذلك فقيل ضمير ‏{‏رُدُّوهَا‏}‏ للشمس والخطاب للملائكة عليهم السلام الموكلين بها، قالوا‏:‏ طلب ردها لما فاته صلاة العصر لشغله بالخيل فردت له حتى صلى العصر، وروى هذا القول عن علي كرم الله تعالى وجهه كما قال الخفاجي‏.‏

والطبرسي‏.‏ وتعقب ذلك الرازي بأن القادر على تحريك الأفلاك والكواكب هو الله تعالى فكان يجب أن يقول ردها على دون ‏{‏رُدُّوهَا‏}‏ بضمير الجمع‏.‏

فإن قالوا‏:‏ هو للتعظيم كما في ‏{‏رَبّ ارجعون‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 99‏]‏ قلنا‏.‏ لفظ ردوها مشعر بأعظم أنواع الإهانة فكيف يليق بهذا اللفظ رعاية التعظيم؛ وأيضاً إن الشمس لو رجعت بعد الغروب لكان مشاهداً لكل أهل الدنيا ولو كان كذلك لتوفرت الدواعي على نقله وحيث لم ينقله أحد علم فساده‏.‏

والذي يقول برد الشمس لسليمان يقول هو كردها ليوشع وردها لنبينا صلى الله عليه وسلم في حديث العير ويوم الخندق حين شغل عن صلاة العصر وردها لعلي كرم الله تعالى وجهه ورضي عنه بدعائه عليه الصلاة والسلام، فقد روى عن أسماء بنت عميس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يوحي إليه ورأسه في حجر علي كرم الله تعالى وجهه فلم يصل العصر حتى غربت الشمس فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «صليت يا علي‏؟‏ قال‏:‏ لا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ اللهم إنه كان في طاعتك وطاعة رسولك فاردد عليه الشمس قالت أسماء‏:‏ فرأيتها غربت ثم رأيتها طلعت بعدما غربت ووقعت على الأرض وذلك بالصهباء في خيبر»

وهذا الخبر في صحته خلاف فقد ذكره ابن الجوزي في الموضوعات، وقال إنه موضوع بلا شك وفي سنده أحمد بن داود وهو متروك الحديث كذاب كما قاله الدارقطني، وقال ابن حبان‏:‏ كان يضع الحديث، وقال ابن الجوزي‏:‏ قد روى هذا الحديث ابن شاهين فذكره ثم قال‏:‏ وهذا حديث باطل ومن تغفل واضعه أنه نظر إلى صورة فضيلة ولم يلمح عدم الفائدة فيها وأن صلاة العصر بغيبوبة الشمس تصير قضاء ورجوع الشمس لا يعيدها أداء انتهى‏.‏ وقد أفرد ابن تيمية تصنيفاً في الرد على الروافض ذكر فيه الحديث بطرقه ورجاله وأنه موضوع‏.‏ وقال الإمام أحمد‏:‏ لا أصل له، وصححه الطحاوي‏.‏ والقاضي عياض، ورواه الطبراني في «معجمه الكبير» بإسناد حسن كما حكاه شيخ الإسلام ابن العراقي في «شرح التقريب» عن أسماء أيضاً لكن بلفظ آخر ورواه ابن مردويه عن أبي هريرة وكان أحمد بن صالح يقول‏:‏ لا ينبغي لمن سبيله العلم التخلف عن حفظ حديث أسماء لأنه من علامات النبوة، وكذا اختلف في حديث الرد يوم الخندق فقيل ضعيف، وقيل؛ موضوع، وادعى العلامة ابن حجر الهثمي صحته، وما في حديث العير وأظن أنهم اختلفوا في صحته أيضاً ليس صريحاً في الرد فإن لفظ الخير أنه لما أسرى بالنبي صلى الله عليه وسلم وأخبر قومه بالرفقة والعلامة التي في العير قالوا‏:‏ متى يجيء‏؟‏ قال‏:‏ يوم الأربعاء فلما كان ذلك اليوم أشرفت قريش ينظرون وقد ولي النهار ولم يجيء فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم فزيد له في النهار ساعة وحبست عليه الشمس والحبس غير الرد ولو كان هناك رد لأدركه قريش ولقالوا فيه ما قالوا في انشقاق القمر ولم ينقل، وقيل‏:‏ كأن ذلك كان بركة في الزمان نحو ما يذكره الصوفية مما يعبرون عنه بنشر الزمان وإن لم يتعلقه الكثير وكذا ما كان ليوشع عليه السلام فقد جاء في الحديث الصحيح ‏"‏ لم تحبس الشمس على أحد الا ليوشع بن نون ‏"‏ والقصة مشهورة وهذا الحديث الصحيح عند الكل يعارض جميع ما تقدم، وتأويله بأن المراد لم تحبس على أحد من الأنبياء غيري إلا ليوشع أو بالتزام أن المتكلم غير داخل في عموم كلامه بعد تسليم قبوله لا ينفي معارضته خبر الرد لسليمان عليه السلام فإنه بظاهره يستدعي نفي الرد الذي هو أعظم من الحبس له عليه السلام‏.‏

وبالجملة القول برد الشمس لسليمان عليه السلام غير مسلم، وعدم قولي بذلك ليس لامتناع الرد في نفسه كما يزعمه الفلاسفة بل لعدم ثبوته عندي، والذوق السليم يأبى حمل الآية على ذلك لنحو ما قال الرازي ولغيره من تعقيب طلب الرد بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَطَفِقَ‏}‏ الخ ثم ما قدمنا نقله من وقوع الصلاة بعد الرد قضاء هو ما ذهب إليه البعض‏.‏

وفي تحفة العلامة ابن حجر الهيتمي لو عادت الشمس بعد الغروب عاد الوقت كما ذكره ابن العماد، وقضية كلام الزركشي خلافه وأنه لو تأخر غروبها عن وقته المعتاد قدر غروبها عنده وخرج الوقت وإن كانت موجودة انتهى كلام الزركشي، وما ذكر آخراً بعيد وكذا أولاً فالأوجه كلام ابن العماد ولا يضركون عودها معجزة له صلى الله عليه وسلم لأن المعجزة نفس العود وأما بقاء الوقت بعودها فحكم الشرع ومن ثم لما عادت صلى علي كرم الله تعالى وجهه العصر أداء بل عودها لم يكن إلا لذلك انتهى‏.‏

ولا يحضرني الآن ما لأصحابنا الحفنية في ذلك بيد أني رأيت في «حواشي تفسير البيضاوي» لشهاب الدين الخفاجي وهو من أجلة الأصحاب ادعاء أن الظاهر أن الصلاة بعد الرد أداء ثم قال‏:‏ وقد بحث الفهقاء فيه بحثاً طويلاً ليس هذا محله، وقيل ضمير ‏{‏تَوَارَتْ‏}‏ للخيل كضمير ‏{‏رُدُّوهَا‏}‏ واختاره جمع فقيل الحجاب اصطبالاتها أي حتى دخلت اصطبلاتها، وقيل حتى توارت في المسابقة بما يحجبها عن النظر، وبعض من قال بإرجاع الضمير للخيل جعل عن للتعليل ولم يجعل المسح بالسوق والأعناق بالمعنى السابق فقالت طائفة‏:‏ عرض على سليمان الخيل وهو في الصلاة فأشار إليهم إني في صلاة فأزالوها عنه حتى دخلت في الاصطبلات فقال لما فرغ من صلاته‏:‏ ‏{‏إِنّى أَحْبَبْتُ حُبَّ الخير‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 32‏]‏ أي الذي لي عند الله تعالى في الآخرة بسبب ذكر ربي كأنه يقول فشغلني ذلك عن رؤية الخيل حتى دخلت اصطبلاتها ردوها على فطفق يمسح أعرافها وسوقها محبة لها وتكريماً‏.‏ وروى أن المسح كان لذلك عن ابن عباس‏.‏ والزهري‏.‏ وابن كيسان ورجحه الطبري، وقيل كان غسلاً بالماء ولا يخفى أن تطبيق هذه الطائفة الآية على ما يقولون ركيك جداً‏.‏

وقال الرازي‏:‏ قال الأكثرون إنه عليه السلام فاته صلاة العصر بسبب اشتغاله بالنظر إلى الخيل فاستردها وعقر سوقها وأعناقها تقرباً إلى الله تعالى، وعندي أنه بعيد ويدل عليه وجوه، الأول‏:‏ أنه لو كان مسح السوق والأعناق قطعها لكان معنى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وامسحوا برؤسكم‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 6‏]‏ اقطعوها وهذا لا يقوله عاقل بل لو قيل مسح رأسه بالسيف فربما فهم منه ضرب العنق أما إذا لم يذكر لفظ السيف لم يفهم منه ذلك البتة، الثاني‏:‏ أن القائلين بهذا القول جمعوا على سليمان أنواعاً من الأفعال المذمومة، فأولها‏:‏ ترك الصلاة، وثانيها‏:‏ أنه استولى عليه الاشتغال بحب الدنيا إلى حيث نسي الصلاة، وقد قال عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏"‏ حب الدنيا رأس كل خطيئة ‏"‏ وثالثها‏:‏ أنه بعد الاتيان بهذا الذنب العظيم لم يشتغل بالتوبة والإنابة، ورابعها‏:‏ على القول برجوع ضمير ‏{‏أَوْ رُدُّوهَا‏}‏ إلى الشمس أنه خاطب رب العالمين بكلمة لا يذكرها الرجل الحصيف إلا مع الخادم الخسيس، وخامسها‏:‏ أنه أتبع هذه المعاصي بعقر الخيل سوقها وأعناقها وقد ورد النهي عن ذبح الحيوان إلا لأكله‏.‏

فهذه أنواع من الكبائر نسبوها إلى سليمان عليه السلام مع أن لفظ القرآن لا يدل على شيء منها، وسادسها‏:‏ أن ذكر هذه القصة وكذا التي قبلها بعد أمره بالصبر على سفاهة الكفار يقتضي أن تكون مشتملة على الأعمال الفاضلة والأخلاق الحميدة والصبر على طاعة الله تعالى والإعراض عن الشهوات واللذات وأما اشتمالها على الإقدام على الكبائر العظيمة والذنوب الجسيمة فبمراحل عن مقتضى التعقيب أن كتاب الله تعالى ينادي على القول المذكور بالفساد‏.‏ والصواب أن يقال‏:‏ إن رباط الخيل كان مندوباً إليه في دينهم كما أن كذلك في دين نبينا صلى الله عليه وسلم ثم أن سليمان احتاج إلى الغزو فجلس وأمر بإحضار الخيل وأمر بإجرائها وذكر إني لا أحبها لأجل الدنيا ونصيب النفس وإنما أحبها لأمر الله تعالى وتقوية دينه وهو المراد من قوله‏:‏ ‏{‏عَن ذِكْرِ رَبِى‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 32‏]‏ ثم أنه عليه السلام أمر باعدائها وتسييرها حتى توارت بالحجاب أي غابت عن بصره ثم أمر الرائضين بأن يردوا تلك الخيل إليه فلما عادت إليه طفق يمسح سوقها وأعناقها والغرض من ذلك المسح أمور‏.‏

الأول‏:‏ تشريف لها وإبانة لعزتها لكونها من أعظم الأعوان في دفع العدو، والثاني‏:‏ أنه أراد أن يظهر أنه في ضبط السياسة والملك يتضع إلى حيث يباشر أكثر الأمور بنفسه، والثالث‏:‏ أنه كان أعلم بأحوال الخيل وأمراضها وعيوبها فكان يمتحنها ويمسح سوقها وأعناقها حتى يعلم هل فيها ما يدل على المرض، فهذا التفسير الذي ينطبق عليه لفظ القرآن انطباقاً موافقاً، ولا يلزمنا نسبة شيء من تلك المنكرات والمحذورات إلى نبي من الأنبياء عليهم السلام، ثم قال‏:‏ وأقول أنا شديد التعجب من الناس كيف قبلوا ما شاع من الوجوه السخيفة مع أن العقل والنقل يراد أنها وليس لهم في إثباتها شبهة فضلاً عن حجة ولفظ الآية لا يدل على شيء من تلك الوجوه التي يذكرها الجمهور كما قد ظهر ظهوراً لا يرتاب العاقل فيه، وبفرض الدلالة يقال‏:‏ إن الدلائل الكثيرة قامت على عصمة الأنبياء عليهم السلام ولم يدل دليل على صحة تلك الحكايات ورواية الآحاد لا تصلح معارضة للدلائل القوية فكيف الحكايات عن أقوام لا يبالي بهم ولا يلتفت إلى أقوالهم انتهى كلامه‏.‏

وكان عليه الرحمة قد اعترض القول برجوع ضمير ‏{‏تَوَارَتْ‏}‏ إلى الشمس دون الصافنات بأن الصافنات مذكورة بصريحها والشمس ليست كذلك وعود الضمير إلى المذكور أولى من عوده إلى المقدر، وأيضاً أنه قَالَ ‏{‏إِنّى أَحْبَبْتُ حُبَّ الخير عَن ذِكْرِ رَبِى حتى تَوَارَتْ بالحجاب‏}‏

‏[‏ص‏:‏ 32‏]‏ وظاهره يدل على أنه كان يعيد ويكرر قوله إني أحبب حب الخير عن ذكر ربي إلى أن توارت بالحجاب فإذا كانت المتوارية الشمس يلزم القول بأنه كرر ذلك من العصر إلى المغرب وهو بعيد، وإذا كانت الصافنات كان المعنى أنه حين وقع بصره عليها حال عرضها كان يقول ذلك إلى أن غابت عن عينه وذلك مناسب، وأيضاً القائلون بالعود إلى الشمس قائلون بتركه عليه السلام صلاة العصر ويأباه أني أحببت الخ لأن تلك المحبة لو كانت عن ذكر الله تعالى لما نسي الصلاة ولما ترك ذكر الله عز وجل، وأقول‏:‏ ما عند الجمهور أولى بالقبول وما ذكره عليهم من الوجوه لا يلتفت إليه ولا يعول عليه‏.‏

أما ما قاله من أنه لو كان مسح السوق والأعناق بمعنى القطع لكان امسحوا برؤسكم أمراً بقطعها ففيه أن هذا إنما يتم لو قيل إن المسح كلما ذكر بمعنى القطع ولم يقل ولا يقال وإنما قالوا‏:‏ إن المسح في الآية بمعنى القطع وقد قال بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم كما جاء في خبر حسن وقد قدمناه لك عن الطبراني والإسمعيلي‏.‏ وابن مردويه وليس بعد قوله عليه الصلاة والسلام قول لقائل، ويكفي مثل ذلك الخبر في مثل هذا المطلب إذ ليس فيه ما يخالف العقل أو نقلاً أقوى كما ستعرفه إن شاء الله تعالى‏.‏

وقد ذكر هذا المعنى للمسح الزمخشري أيضاً وهو من أجلة علماء هذا الشأن، وصح نقله عن جماعة من السلف، وقال الخفاجي‏:‏ استعمال المسح بمعنى ضرب العنق استعارة وقعت في كلامهم قديماً، نعم احتياج ذلك للقرينة مما لا شبهة فيه، والقرينة عند من يدعيه ههنا السياق وعود ضمير ‏{‏تَوَارَتْ‏}‏ على الشمس وهو كالمتعين كما سيتضح لك إن شاء الله تعالى‏.‏

وأما قوله‏:‏ إنهم جمعوا على سليمان عليه السلام أنواعاً من الأفعال المذمومة ففرية من غير مرية‏.‏ وقوله‏:‏ أولها‏:‏ ترك الصلاة فيه أن الترك المذموم ما كان عن عمد وهم لا يقولون به وما يقولون به الترك نسياناً وهو ليس بمذموم إذ النسيان لا يدخل تحت التكليف على أن كون ما ترك فرضاً مما لم يجزم به الجميع، وقوله‏:‏ ثانيها‏:‏ أنه استولى عليه الاشتغال بحب الدنيا إلى حيث ترك الصلاة، فيه أن ذلك اشتغال بخيل الجهاد وهو عبادة‏.‏

وقوله‏:‏ ثالثها‏:‏ أنه بعد الإتيان بهذا الذنب العظيم لم يشتغل بالتوبة والإنابة، فيه أنا لا نسلم أنه عليه السلام ارتكب ذنباً حقيقة فضلاً عن كونه عظيماً، نعم ربما يقال‏:‏ إنه عليه السلام لم يستحسن ذلك بمقامه فاتبعه التقرب بالخيل التي شغل بسببها وذلك يدل على التوبة دلالة قوية ولم يكن ليتعطل أمر الجهاد به فقد أوتي عليه السلام عير ذلك على أن كون ما ذكر كالاستشهاد على قوله تعالى‏:‏

‏{‏إِنَّهُ أَوَّابٌ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 30‏]‏ مشعر بتضمنه الأوبة وإن ذهبنا إلى تعلق ‏{‏إِذْ عُرِضَ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 32‏]‏ بأواب يكاد لا يرد هذا الكلام رأساً‏.‏

وقوله‏:‏ رابعها‏:‏ أنه خاطب ربه عز وجل بلفظ غير مناسب، فيه أنه إن ورد فإنما يرد على القول برجوع ضمير ‏{‏رُدُّوهَا‏}‏ إلى الشمس ونحن لا نقول به فلا يلزمنا الجواب عنه، والذي نقوله‏:‏ إن الضمير للخيل والخطاب لخدمته ومع هذا لم يقل تلك الكلمة تهوراً وتجبراً كما يتوهم، وقوله‏:‏ خامسها‏:‏ أنه اتبع هذه المعاصي بعقر الخيل وقد ورد النهي الخ، فيه أنه عليه السلام لم يفعل معصية ليقال اتبع هذه المعاصي وأن الخيل عقرت قرباناً وكان تقريبها مشروعاً في دينه فهو طاعة، ومن مجموع ما ذكرنا يعلم ما في قوله سادسها‏:‏ الخ على أنه قد تقدم لك وجه ربط هذه القصص بما قبلها وهو لا يتوقف على التزام ما قاله في هذه القصة وما زعمه من أنه الصواب ففي إرجاع ضمير توارت إلى الخيل، ولا يخفى على ذي ذوق سليم وطبع مستقيم أن توارى الخيل بالحجارة عبارة ركيكة يجل عنها الكتاب المتين، وفيه أيضاً أنه لا يكاد ينساق إلى الذهن متعلق ‏{‏حتى تَوَارَتْ‏}‏ الذي أشار إليه في تقرير ما زعم صوابيته وتعلقه بقال على ما يشير إليه كلامه المنقول آخراً مما يستبعد جداً فإن الظاهر أن قوله‏:‏ ‏{‏حتى تَوَارَتْ بالحجاب‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 32‏]‏ من المحكي كالذي قبله والذي بعده لا من الحكاية، وأيضاً كون الرد للمسح الذي ذكره خلاف ما جاء في الخبر الحسن وهو في نفسه بعيد، والأغراض التي ذكرها فيه لا يخفى حالها، ودعواه أن هذا التفسير هو الذي ينطبق عليه لفظ القرآن مما لا يتم لها دليل ولعل الدليل على عدم الانطباق ظاهر‏.‏

وقوله‏:‏ أنا شديد التعجب من الناس الخ أقول فيه‏:‏ أنا تعجبي منه أشد من تعجبه من الناس حيث خفي عليه حسن الوجه الذي استحسنه الجمهور ولم يطلع على ما ورد فيه من الأخبار الحسان وظن أن القول به مناف للقول بعصمة الأنبياء عليهم السلام حتى قال ما قال ورشق على الجمهور النبال، وقوله في ترجيح رجوع ضمير ‏{‏تَوَارَتْ‏}‏ إلى ‏{‏الصافنات‏}‏ على رجوعه إلى الشمس أنها مذكورة بصريحها دون الشمس ليس بشيء فإن رجوعه إلى الشمس يجعل الكلام ركيكاً فلا ينبغي ارتكابه لمجرد أن فيه رجوع الضمير إلى مذكور صريحاً على أن في كونه راجعاً إلى الصافنات المذكورة صريحاً بحثاً، ولا يرد على الجمهور لزوم تخالف الضمائر في المرجع وهو تفكيك لأن التخالف مع القرينة لا ضير فيه، وأعجب مما ذكر زعمه أنه يلزم على ما قال الجمهور أن سليمان عليه السلام كرر قوله‏:‏ ‏{‏إِنّى أَحْبَبْتُ حُبَّ الخير عَن ذِكْرِ رَبِى‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 32‏]‏ من العصر إلى المغرب فإن الجمهور ما حاموا حول ما يلزم منه ذلك أصلاً إذ لم يقل أحد منهم بأن حتى متعلق بقال كما زعم هو بل هي عندهم متعلقة بأحببت على المعنى الذي أسلفناه، ومن أنصف لا يرتضي أيضاً القول بأنه عليه السلام كرر ذلك القول إلى أن غابت الخيل عن عينه كما قاله به هذا الإمام، ويرد على قوله القائلون بالعود إلى الشمس قائلون بتركه عليه السلام صلاة العصر ويأباه ‏{‏إِنّى أَحْبَبْتُ‏}‏ الخ‏.‏

لأن تلك المحبة لو كانت عن ذكر الله تعالى لما نسي الصلاة أن الجمهور لا يقولون بأن على للتعليل والاباء المذكور على تقدير تسليمه لا يتسنى إلا على ذلك وما يقولونه وقد أسلفناه لك بمراحل عنه‏.‏

وبالجملة قد اختلت أقوال هذا الإمام في هذا المقام ولم ينصف مع الجمهور وهم أعرف منه بالمأثور نعم ما ذكره في الآية وجه ممكن فيها على بعد إذا قطع النظر عن الاخبار وما جاء عن السلف من الآثار، وقد ذكر نحوه عبد الوهاب الشعراني في كتابه اليواقيت والجواهر وهو في الحقيقة والله تعالى أعلم من كلام الشيخ الأكبر محيي الدين قدس سره وقد خالف الجمهور كالإمام، قال في الباب المائة والعشرين من الفتوحات‏:‏ ليس للمفسرين الذين جعلوا التواري للشمس دليل فإن الشمس ليس لها هنا ذكر ولا للصلاة التي يزعمون ومساق الآية لا يدل على ما قالوه بوجه ظاهر البتة، وأما استرواحهم فيما فسروه بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ فَتَنَّا سليمان‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 34‏]‏ فالمراد بتلك الفتنة إنما هو الاختبار بالخيل هل يحبها عن ذكر ربه تعالى لها أو يحبها لعينها فأخبر عليه السلام عن نفسه أنه أحبها عن ذكر ربه سبحانه إياها لا لحسنها وكمالها وحاجته إليها إلى آخر ما قال، وقد كان قدس سره معاصراً للإمام وكتب إليه رسالة يرغبه فيها بسلوك طريقة القوم ولم يجتمعا، وغالب الظن أنه لم يأخذ أحدهما من الآخر ما قال في الآية بل لم يسمعه وعلم كل منهما لا ينكر والشيخ بحر لا يدرك قعره، وما ذكره في الاسترواح مما لم أقف عليه لأحد من المفسرين والله تعالى أعلم‏.‏ وقرأ ابن كثير ‏{‏بالسؤق‏}‏ بهمزة ساكنة قال أبو علي‏:‏ وهي ضعيفة لكن وجهها في القياس أن الضمة لما كانت تلي الواو وقدر أنها عليها كما يفعلون بالواو المضمومة حيث يبدلونها همزة، ووجهها من القياس أن اباحية النميري كان يهمز كل واو ساكنة قبلها ضمة وكان ينشد‏.‏ أحب الوافدين إلى مؤسي *** وقال أبو حيان‏:‏ ليست ضعيفة لأن الساق فيه الهمزة فوزنه فعل بسكون العين فجاءت هذه القراءة على هذه اللغة‏.‏ وتعقب بأن همز الساق إبدال على غير القياس إذ لا شبهة في كونه أجوف فلا بد من التوجيه بما تقدم‏.‏ وقرأ ابن محيصن ‏{‏بالسؤوق‏}‏ بهمزة مضمومة بعدها واو ساكنة بوزن الفسوق، ورواها بكار عن قنيل وهو جمع ساق أيضاً‏.‏ وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما ‏{‏الساق بالساق‏}‏ مفرداً اكتفى به عن الجمع لأمن اللبس‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏34‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ ‏(‏34‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَقَدْ فَتَنَّا سليمان وَأَلْقَيْنَا على كُرْسِيّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنَابَ‏}‏ أظهر ما قيل في فتنته عليه السلام أنه قال‏:‏ لأطوفن الليلة على سبعين امرأة تأتي كل واحدة بفارس يجاهد في سبيل الله تعالى ولم يقل إن شاء الله فطاف عليهن فلم تحمل إلا امرأة وجاءت بشق رجل وقد روى ذلك الشيخان وغيرهما عن أبي هريرة مرفوعاً وفيه‏:‏ «فوالذي نفس محمد بيده لو قال إن شاء الله لجاهدوا فراسنا» لكن الذي في «صحيح البخاري» أربعين بدل سبعين وأن الملك قال له‏:‏ قل إن شاء الله فلم يقل وغايته ترك الأولى فليس بذنب وإن عده هو عليه السلام ذنباً، فالمراد بالجسد ذلك الشق الذي ولد له، ومعنى إلقائه على كرسيه وضع القابلة له عليه ليراه‏.‏

وروى الإمامية عن أبي عبد الله رضي الله تعالى عنه أنه ولد لسليمان ابن فقالت الجن والشياطين‏:‏ إن عاش له ولد لنلقين منه من أبيه من البلاء فأشفق عليه السلام منهم فجعله وظئره في السحاب من حيث لا يعلمون فلم يشعر إلا وقد ألقى على كرسيه ميتاً تنبيهاً على أن الحذر لا ينجي من القدر وعوتب على تركه التوكل اللائق بالخواص من ترك مباشرة الأسباب، وروى ذلك عن الشعبي أيضاً، ورواه بعضهم عن أبي هريرة على وجه لا يشك في وضعه إلا من يشك في عصمة الأنبياء عليهم السلام، وأنا في صحة هذا الخبر لست على يقين بل ظاهر الآية أن تسخير الريح بعد الفتنة وهو ظاهر في عدم صحة الخبر لأن الوضع في السحاب يقتضي ذلك‏.‏

وأخرج عبد بن حميد‏.‏ والحكيم الترمذي من طريق علي بن زيد عن سعيد بن المسيب أن سليمان عليه السلام احتجب عن الناس ثلاثة أيام فأوحى الله تعالى إليه أن يا سليمان احتجبت عن الناس ثلاثة أيام فلم تنظر في أمور عبادي ولم تنصف مظلوماً من ظالم وكان ملكه في خاتمه وكان إذا دخل الحمام وضع خاتمه تحت فراشه فجاء الشيطان فأخذه فأقبل الناس على الشيطان فقال سليمان‏:‏ يا أيها الناس أنا سليمان نبي الله تعالى فدفعوه فساح أربعين يوماً فأتى أهل سفينة فأعطوه حوتاً فشقها فإذا هو بالخاتم فيها فتختم به ثم جاء فأخذ بناصيته فقال عند ذلك‏:‏ ‏{‏رَبّ اغفر لِى وَهَبْ لِى مُلْكاً لاَّ يَنبَغِى لاِحَدٍ مّن بَعْدِى‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 35‏]‏

وأخرج النسائي‏.‏ وابن جرير‏.‏ وابن أبي حاتم قال ابن حجر‏.‏ والسيوطي بسند قوي عن ابن عباس أراد سليمان عليه السلام أن يدخل الخلاء فأعطى الجرادة خاتمه وكانت امرأته وكانت أحب نسائه إليه فجاء الشيطان في صورة سليمان فقال لها‏:‏ هاتي خاتمي فأعطته فلما لبسه دانت الإنس والجن والشياطين فلما خرج سليمان قال لها‏:‏ هاتي خاتمي قالت‏:‏ قد أعطيته سليمان قال أنا سليمان قالت كذبت لست سليمان فجعل لا يأتي أحداً فيقول له أنا سليمان إلا كذبه حتى جعل الصبيان يرمونه بالحجارة فلما رأى ذلك عرف أنه من أمر الله تعالى وقام الشيطان يحكم بين الناس فلما أراد الله تعالى أن يرد عليه سلطانه ألقى في قلوب الناس إنكار ذلك الشيطان فأرسلوا إلى نساء سليمان فقالوا‏:‏ أتنكرن من سليمان شيئاً‏؟‏ قلن‏:‏ نعم إنه يأتينا ونحن حيض وما كان يأتينا قبل ذلك فلما رأى الشيطان أنه قد فطن له ظن أن أمره قد انقطع فأمر الشياطين فكتبوا كتباً فيها سحر ومكر فدفنوها تحت كرسي سليمان ثم أثاروها وقرؤها على الناس وقالوا‏:‏ بهذا كان يظهر سليمان على الناس ويغلبهم فاكفر الناس سليمان وبعث ذلك الشيطان بالخاتم فطرحه في البحر فتلقته سمكة فأخذته وكان عليه السلام يعمل على شط البحر بالأجر فجاء رجل فاشترى سمكاً فيه تلك السمكة، فدعا سليمان فحمل معه السمك إلى باب داره فأعطاه تلك السمكة فشق بطنها فإذا الخاتم فيه فأخذه فلبسه فدانت له الإنس والجن والشياطين وعاد إلى حاله وهرب الشيطان إلى جزيرة في البحر فأرسل في طلبه وكان مريداً فلم يقدروا عليه حتى وجدوه نائماً فبنوا عليه بنياناً من رصاص فاستيقظ فأوثقوه وجاؤا به إلى سليمان فأمر فنقر له صندوق من رخام فأدخل في جوفه ثم سد بالنحاس ثم أمر به فطرح في البحر‏.‏

وذكر في سبب ذلك أنه عليه السلام كان قد غزا صيدون في الجزائر فقتل ملكها وأصاب ابنته وهي جرادة المذكورة فأحبها وكان لا يرقأ دمعها جزعاً على أبيها فأمر الشياطين فمثلوا لها صورته وكان ذلك جائزاً في شريعته وكانت تغدو إليها وتروح مع ولائدها يسجدن لها كعادتهن في ملكه فأخبره آصف فكسر الصورة وضرب المرأة فعوتب بذلك حيث تغافل عن حال أهله‏.‏ واختلف في اسم ذلك الشيطان فعن السدي أنه حبقيق؛ وعن الأكثرين أنه صخر وهو المشهور، وإنما قال سبحانه‏:‏ ‏{‏جَسَداً‏}‏ لأنه إنما تمثل بصورة غيره وهو سليمان عليه السلام وتلك الصورة المتمثلة ليس فيها روح صاحبها الحقيقي وإنما حل في قالبها ذلك الشيطان فلذا سميت جسداً وعبارة «القاموس» صريحة في أن الجسد يطلق على الجني‏.‏

وقال أبو حيان وغيره‏:‏ إن هذه المقالة من أوضاع اليهود وزنادقة السوفسطائية ولا ينبغي لعاقل أن يعتقد صحة ما فيها، وكيف يجوز تمثل الشيطان بصورة نبي حتى يلتبس أمره عند الناس ويعتقدوا أن ذلك المتصور هو النبي، ولو أمكن وجود هذا لم يوثق بإرسال نبي نسأل الله تعالى سلامة ديننا وعقولنا ومن أقبح ما فيها زعم تسلط الشيطان على نساء نبيه حتى وطئهن وهن حيض الله أكبر هذا بهتان عظيم وخطب جسيم ونسبة الخير إلى ابن عباس رضي الله تعالى عنهما لا تسلم صحتها، وكذا لا تسلم دعوى قولا سنده إليه وإن قال بها من سمعت‏.‏

وجاء عن ابن عباس برواية عبد الرزاق‏.‏ وابن المنذر ما هو ظاهر في أن ذلك من أخبار كعب ومعلوم أن كعباً يرويه عن كتب اليهود وهي لا يوثق بها على أن إشعار ما يأتي بأن تسخير الشياطين بعد الفتنة يأبى صحة هذه المقالة كما لا يخفى، ثم إن أمر خاتم سليمان عليه السلام في غاية الشهرة بين الخواص والعوام ويستبعد جداً أن يكون الله تعالى قد ربط ما أعطى نبيه عليه السلام من الملك بذلك الخاتم وعندي أنه لو كان في ذلك الخاتم السر الذي يقولون لذكره الله عز وجل في كتابه والله تعالى أعلم بحقيقة الحال‏.‏

وقال قوم‏:‏ مرض سليمان عليه السلام مرضاً كالإغماء حتى صار على كرسيه كأنه جسد بلا روح وقد شاع قولهم في الضعيف‏:‏ لحم على وضم وجسد بلا روح فالجسد الملقى على الكرسي هو عليه السلام نفسه‏.‏

وروى ذلك عن أبي مسلم وقال في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثُمَّ أَنَابَ‏}‏ أي رجع إلى الصحة وجعل ‏{‏جَسَداً‏}‏ حالاً من مفعول ‏{‏ألقينا‏}‏ المحذوف كأنه قيل ولقد فتنا سلميان أي ابتليناه وأمرضناه وألقيناه على كرسيه ضعيفاً كأنه جسد بلا روح ثم رجع إلى صحته، ولا يخفى سقمه، والحق ما ذكر أولاً في الحديث المرفوع، وعطف ‏{‏مَنْ أَنَابَ‏}‏ بثم وكان الظاهر الفاء كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏واستغفر رَبَّهُ‏}‏ قيل إشارة إلى استمرار إنابته وامتدادها فإن الممتد يعطف بها نظراً لأواخره بخلاف الاستغفار فإنه ينبغي المسارعة إليه ولا امداد في وقته، وقيل‏:‏ إن العطف بثم هنا لما أنه عليه السلام لم يعلم الداعي إلى الإنابة عقيب وقوعه وهذا بخلاف ما كان في قصة داود عليه السلام فإن العطف هناك على ظن الفتنة واللائق به أن لا يؤخر الاستغفار عنه، وقيل‏:‏ العطف بها هنا لما إن بين زمان الإنابة وأول زمان ما وقع منه عليه السلام من ترك الاستثناء مدة طويلة وهي مدة الحمل وليس بين زمان استغفار داود عليه السلام وأول زمان ما وقع منه كذلك‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏35‏]‏

‏{‏قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ ‏(‏35‏)‏‏}‏

‏{‏قَالَ‏}‏ بدل من ‏{‏أَنَابَ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 34‏]‏ وتفسير له على ما في «إرشاد العقل السليم» وهو الظاهر‏.‏ ويمكن أن يكون استئنافاً بيانياً نشأ من حكاية ما تقدم كأنه قيل فهل كان له حال لا يضر معه مسح الخيل سوقها وأعناقها وهل كان بحيث تقتضي الحكمة فتنته‏؟‏ فأجيب بما أجيب وحاصله نعم كان له حال لا يضر معه المسح وكان بحيث تقتضي الحكمة فتنته فد دعا بملك عظيم فوهب له، ويمكن أن يقرر الاستئناف على وجه آخر، وكذا يمكن أن يكون استئنافاً نحوياً لحكاية شيء من أحواله عليه السلام فتأمل ‏{‏رَبّ اغفر لِى‏}‏ ما لم أستحسن صدوره عني‏.‏

‏{‏وَهَبْ لِى مُلْكاً لاَّ يَنبَغِى لاِحَدٍ مّن بَعْدِى‏}‏ أي لا يصح لأحد غيري لعظمته فبعد هنا نظير ما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ الله‏}‏ ‏[‏الجاثية‏:‏ 23‏]‏ أي غير الله تعالى، وهم أعم من أن يكون الغير في عصره، والمراد وصف الملك بالعظمة على سبيل الكناية كقولك لفلان ما ليس لأحد من الفضل والمال وربما كان في الناس أمثاله تريد أن له من ذلك شيئاً عظيماً لا أن لا يعطي أحد مثله ليكون منافسة، وما أخرج عبد بن حميد‏.‏ والبخاري‏.‏ ومسلم‏.‏ والنسائي‏.‏ والحكيم الترمذي في «نوادر الأصول»، وابن مردويه عن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ إن عفريتاً جعل يتفلت على البارحة ليقطع على صلاتي وإن الله تعالى أمكنني منه فلقد هممت أن أربطه إلى سارية من سواري المسجد حتى تصبحوا فتنظوا إليه كلكم فذكرت قول أخي سليمان ‏{‏رَبّ اغفر لِى وَهَبْ لِى مُلْكاً لاَّ يَنبَغِى لاِحَدٍ مّن بَعْدِى‏}‏ فرده الله تعالى خاسئاً ‏"‏ لا ينافي ذلك لأنه عليه الصلاة والسلام أراد كمال رعاية دعوة أخيه سليمان عليه السلام بترك شيء تضمنه ذلك الملك العظيم وإلا فالملك العظيم ليس مجرد ربط عفريت إلى سارية بل هو سائر ما تضمنه قوله تعالى الآتي‏:‏ ‏{‏فَسَخَّرْنَا لَهُ الريح‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 36‏]‏ الخ‏.‏ وقيل‏:‏ إن عدم المنافاة لأن الكناية تجامع إرادة الحقيقة كما تجامع إرادة عدمها، ولعله إنما طلب عليه السلام ذلك ليكون علامة على قبول سؤاله المغفرة وجبر قلب عما فاته بترك الاستثناء أو ليتوصل به إلى تكثير طاعته لله عز وجل ونعمة الدنيا الصالحة للعبد الصالح فلا إشكال في طلب الملك في هذا المقام إذا قلنا بما يقتضيه ظاهر النظم الجليل من صدور الطلبين معاً‏.‏

وقال الزمخشري‏:‏ كان سليمان عليه السلام ناشئاً في بيت الملك والنبوة ووارثاً لهما فأراد أن يطلب من ربه عز وجل معجزة فطلب على حسب إلفه ملكاً زائداً على الممالك زيادة خارقة للعادة بالغة حد الإعجاز ليكون ذلك دليلاً على نبوته قاهراً للمبعوث إليهم ولن تكون معجزة حتى تخرق العادات فذلك معنى ‏{‏لاَّ يَنبَغِى لاِحَدٍ مّن بَعْدِى‏}‏ فقوله من بعدي بمعنى من دوني وغيري كما في الوجه السابق، وحسن طلب ذلك معجزة مع قطع النظر عن الألف أنه عليه السلام كان زمن الجبارين وتفاخرهم بالملك ومعجزة كل نبي من جنس ما اشتهر في عصره، ألا ترى أنه لما اشتهر السحر وغلب في عهد الكليم عليه السلام جاءهم بما يتلقف ما أتوا به‏.‏

ولما اشتهر الطب في عهد المسيح عليه السلام جاءهم بإبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى، ولما اشتهر في عهد خاتم الرسل صلى الله عليه وسلم الفصاحة أتاهم بكلام لم يقدروا على أقصر فصل من فصوله‏.‏ واعترض بأن اللائق بطلب المعجزة أن يكون في ابتداء النبوة وظاهر «النظم الجليل» أن هذا الطلب كان بعد الفتنة والإنابة كيف لا وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قَالَ‏}‏ الخ بدل من ‏{‏أَنَابَ‏}‏ وتفسير له والفتنة لم تكن في الابتداء كما يشعر به النظم‏.‏ وأجيب بأنا لا نسلم أن اللائق بطلب المعجزة كونها في ابتداء النبوة وإن سلم فليس في الآية ما ينافي وقوعه، وكذا وقوع الفتنة في ابتدائها لا سيما إن قلنا‏:‏ إن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قَالَ رَبّ اغفر لِى‏}‏ الخ ليس تفسيراً لأناب‏.‏ وأجيب على القول بأن الفتنة كانت سلب الملك بأن رجوعه بعد كالابتداء‏.‏

وذكر بعض الذاهبين إلى ذلك أنه عليه السلام أقام في ملكه قبل هذه الفتنة عشرين سنة وأقام بعدها عشرين سنة أيضاً وقالوا في هذه الآية‏:‏ إن مصب الدعاء الوصف فمعنى الآية هب لي ملكاً لا ينبغي لأحد غيري ممن هو في عصري بأن يسلبه مني كهذه السلبة‏.‏

وروي هذا المعنى عن عطاء بن أبي رباح‏.‏ وقتادة، وحاصله الدعاء بعدم سلب ملكه عنه في حياته، ويفهم مما في سياق التفريع إحابة سؤاله عليه السلام وأن ما وهب له لا يسلب عنه بعد‏.‏ وجوز أن يكون هذا دعاء بعدم السلب وإن لم يتقدم سلب ودوام نعمة الله عز وجل مما يحسن الدعاء به والآثار ملأى من ذلك فهذا الوجه لا يتعين بناؤه على تفسير الفتنة بسلب الملك على ما حكى سابقاً‏.‏

وقال الجبائي‏:‏ إنه عليه السلام طلب ملكاً لا يكون لغيره أبداً ولم يطلب ذلك إلا بعد الإذن فإن الأنبياء عليهم السلام لا يطلبون إلا ما يؤذن لهم في طلبه وجائز أن يكون الله تعالى قد أعلمه أنه إن سأل ذلك كان أصلح له في الدين وأعلمه أن لا صلاح لغيره فيه وهو نظير قول القائل‏:‏ اللهم اجعلني أكثر أهل زماني مالاً إذا علمت أن ذلك أصلح لي فإنه حسن لا ينسب قائله إلى شح اه‏.‏

قيل ويجوز أن يكون معنى الآية عليه هب لي ملكاً ينبغي لي حكمة ولا ينبغي حكمة لأحد غيري وأراد بذلك طلب أن يكون عليه السلام متأهلاً لنعم الله عز وجل وهو كما ترى‏.‏ وقيل غير ذلك، ومن أعجب ما رأيت ما قاله السيد المرتضى‏:‏ إنه يجوز أن يكون إنما سأل ملك الآخرة وثواب الجنة ويكون معنى قوله‏:‏ ‏{‏لاَّ يَنبَغِى لاِحَدٍ مّن بَعْدِى‏}‏ لا يستحقه بعد وصوله إليه من حيث لا يصح أن يعمل ما يستحق به ذلك لانقطاع التكليف، ولا يخفى أنه مما لا يرتضيه الذوق والتفريع الآتي آب عنه كل الإباء، واستدل بعضهم بالآية على بعض الأقوال المذكورة فيها على تكفير من ادعى استخدام الجن وطاعتهم له وأيد ذلك بالحديث السابق، والحق أن استخدام الجن الثابت لسليمان عليه السلام لم يكن بواسطة أسماء ورياضات بل هو تسخير إلهي من غير واسطة شيء وكان أيضاً على وجه أتم وهو مع ذلك بعض الملك الذي استوهبه فالمختص على تقدير إفادة الآية الاختصاص مجموع ما تضمنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَسَخَّرْنَا‏}‏ الخ فالظاهر عدم إكفار من يدعي استخدام شيء من الجن، ونحن قد شاهدنا مراراً من يدعي ذلك وشاهدنا آثار صدق دعواه على وجه لا ينكره إلا سوفسطائي أو مكابر‏.‏

ومن الاتفاقيات الغريبة أني اجتمعت يوم تفسيري لهذه الآية برجل موصلي يدعي ذلك وامتحنته بما يصدق دعواه في محفل عظيم ففعل وأتى بالعجب العجاب، وكانت الأدلة على نفي احتمال الشعبذة ونحوها ظاهرة لذوي الألباب إلا أن لي إشكالاً في هذا المقام وهو أن الخادم الجني قد يحضر الشيء الكثيف من نحو صندوق مقفل بين جمع في حجرة أغلقت أبوابها وسدت منافذها ولم يشعر به أحد، ووجه الإشكال أن الجني لطيف فكيف ستر الكثيف فلم ير في الطريق وكيف أخرجه من الصندوق وأدخله الحجرة وقد سددت المنافذ، وتلطف الكثيف ثم تكثفه بعد مما لا يقبله إلا كثيف أو سخيف، ومثل ذلك كون الإحضار المذكور على نحو إحضار عرش بلقيس بالإعدام والإيجاد كما يقوله الشيخ الأكبر أو بوجه آخر كما يقول غيره، ولعل الشرع أيضاً يأبى هذا، وسرعة المرور إن نفعت ففي عدم الرؤية في الطريق، وقصارى ما يقال لعل للجني سحراً أو نحوه سلب به الإحساس فتصرف بالصندوق ومنافذ الحجرة حسبما أراد وأتى بالكثيف يحمله ولم يشعر به أحد من الناس فإن تم هذا فبها وإلا فالأمر مشكل، وظاهر جعل جملة ‏{‏قَالَ رَبّ اغفر لِى‏}‏ تفسيراً للإنابة يقتضي أن الاستغفار مقصود لذاته لا وسيلة للاستيهاب، وفي كون الاستيهاب مقصوداً لذاته أيضاً احتمالان‏.‏

وتقديم الاستغفار على تقدير كونهما مقصودين بالذات لمزيد اهتمامه بأمر الدين وقد يجعل مع هذا وسيلة للاستيهاب المقصود أيضاً فإن افتتاح الدعاء بنحو ذلك أرجى للإجابة، وجوز على بعد بعد التزام الاستئناف في الجملة كون الاستيهاب هو المقصود لذاته والاستغفار وسيلة له، وسيجىء إن شاء الله تعالى ما قيل في الاستئناس له‏.‏

وقرىء ‏{‏مِن بَعْدِى‏}‏ بفتح الياء وحكى القراءة به في لي، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّكَ أَنتَ الوهاب‏}‏ تعليل للدعاء بالمغفرة والهبة معاً لا للدعاء بالأخيرة فقط فإن المغفرة أيضاً من أحكام وصف الوهابية قطعاً، ومن جوز كون الاستيهاب هو المقصود استأنس له بهذا التعليل ظناً منه أنه للدعاء بالأخيرة فقط وكذا بعدم التعرض لإجابة الدعاء بالأولى فإن الظاهر أن قوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏36‏]‏

‏{‏فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ ‏(‏36‏)‏‏}‏

‏{‏فَسَخَّرْنَا لَهُ الريح‏}‏ إلى آخره تفريع على طلبه ملكاً لا ينبغي لأحد من بعده ولو كان الاستغفار مقصوداً أيضاً لقيل فغفرنا له وسخرنا له الريح الخ‏.‏ وأجيب بأنه يجوز أن يقال‏:‏ إن المغفرة لمن استغفر لا سيما الأنبياء عليهم السلام لما كانت أمراً معلوماً بخلاف هبة ملك لمن استوهب لم يصرح بها واكتفى بدلالة ما ذكر في حيز الفاء مع ما في الآية بعد على ذلك، وتقوى هذه الدلالة على تقدير أن يكون طلب الملك علامة على قبول استغفاره وإجابة دعائه فتأمل، والتسخير التذليل أي فذللناها لطاعته إجابة لدعوته، وقيل أدمنا تذليلها كما كان وقرأ الحسن‏.‏ وأبو رجاء‏.‏ وقتادة‏.‏ وأبو جعفر ‏{‏الرياح‏}‏ بالجمع قيل‏:‏ وهو أوفق لما شاع من أن الريح تستعمل في الشر والرياح في الخير، وقد علمت أن ذلك ليس بمطرد، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏تَجْرِى بِأَمْرِهِ‏}‏ بيان لتسخيرها له عليه السلام أو حال أي جارية بأمره ‏{‏رُخَاء‏}‏ أي لينة من الرخاوة لا تحرك لشدتها‏.‏ واستشكل هذا بأنه ينافي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولسليمان الريح عَاصِفَةً‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 81‏]‏ لوصفها ثمت بالشدة وهنا باللين‏.‏

وأجيب بأنها كانت في أصل الخلقة شديدة لكنها صارت لسليمان لينة سهلة أو أنها تشتد عند الحمل وتلين عند السير فوصفت باعتبار حالين أو أنها شديدة في نفسها فإذا أراد سليمان عليه السلام لينها لانت على ما يشير إليه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏بِأَمْرِهِ‏}‏ أو أنها تلين وتعصف باقتضاء الحال، وقال ابن عباس‏.‏ والحسن‏.‏ والضحاك‏:‏ رخاء مطيعة لا تخالف إرادته كالمأمور المنقاد، فالمراد بلينها انقيادها له وهو لا ينافي عصفها، واللين يكون بمعنى الإطاعة وكذا الصلابة تكون بمعنى العصيان ‏{‏حَيْثُ أَصَابَ‏}‏ أي قصد وأراد كما روي عن ابن عباس‏.‏ والضحاك‏.‏ وقتادة، وحكى الزجاج عن العرب أصاب الصواب فأخطأ الجواب، وعن رؤبة أن رجلين من أهل اللغة قصداه ليسألاه عن هذه الكلمة فخرج إليهما فقال‏:‏ أن تصيبان‏؟‏ فقالا‏:‏ هذه طلبتنا ورجعا ويقال أصاب الله تعالى بك خيراً، وأنشد الثعلبي‏:‏

أصاب الكلام فلم يستطع *** فأخطأ الجواب لدى المعضل

وعن قتادة أن أصاب بمعنى أراد لغة هجر وقيل لغة حمير، وجوز أن يكون أصاب من صاب يصوب بمعنى نزل، والهمزة للتعدية أي حيث أنزل جنوده، وحيث متعلقة بسخرنا أو بتجري‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏37‏]‏

‏{‏وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ ‏(‏37‏)‏‏}‏

‏{‏والشياطين‏}‏ عطف على ‏{‏الريح‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 36‏]‏ ‏{‏كُلَّ بَنَّاء وَغَوَّاصٍ‏}‏ بدل من ‏{‏الشياطين‏}‏ وهو بدل كل من كل إن أريد المعهودون المسخرون أو أريد من له قوة البناء والغوص والتمكن منهما أو بدل بعض إن لم يرد ذلك فيقدر ضمير أي منهم والغوص لاستخراج الحلية وهو عليه السلام على ما قيل أول من استخرج الدر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏38‏]‏

‏{‏وَآَخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ ‏(‏38‏)‏‏}‏

‏{‏وَءاخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِى الاصفاد‏}‏ عطف على ‏{‏كُلٌّ‏}‏ لا على ‏{‏الشياطين‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 37‏]‏ لأنهم منهم إلا أن يراد العهد ولا على ما أضيف إليه ‏{‏كُلٌّ‏}‏ لأنه لا يحسن فيه إلا الإضافة إلى مفرد منكر أو جمع معرف، والأصفاد جمع صفد وهو القيد في المشهور، وقيل الجامعة أعني الغل الذي يجمع اليدين إلى العنق قيل وهو الأنسب بمقرنين لأن التقرين بها غالباً ويسمى به العطاء لأنه ارتباط للمنعم عليه ومنه قول علي كرم الله تعالى وجهه‏:‏ من برك فقد أسرك ومن جفاك فقد أطلقك؛ وقول القائل‏:‏ غل يداً مطلقها وفك رقبة معتقها، وقال أبو تمام‏:‏ هممي معلقة عليك رقابها *** مغلولة إن العطاء إسار

وتبعه المتنبي في قوله‏:‏ وقيدت نفسي في ذراك محبة *** ومن وجد الإحسان قيداً تقيدا

وفرقوا بين فعليهما فقالوا‏:‏ صفده قيده وأصفده أعطاه عكس وعده وأوعده‏.‏ ولهم في ذلك كلام طويل قال فيه الخفاجي ما قال ثم قال‏:‏ والتحقيق عندي أن ههنا مادتين في كل منهما ضار ونافع وقليل اللفظ وكثيره وقد ورد في إحداهما الضار بلفظ قليل مقدم والنافع بلفظ كثير مؤخر وفي الأخرى عكسه ووجهه في الأول أنه أمر واقع لأنه وضع للقيد ثم أطلق على العطاء لأنه يقيد صاحبه وعبر بالأقل في القيد لضيقه المناسب لقلة حروفه وبالأكثر في العطاء لأنه من شأن الكرم‏.‏ وقدم الأول لأنه أصل أخف وعكس ذلك في وعد وأوعد فعبر في النافع بالأقل وقدم وأخر الضار وكثر حروفه لأنه مستقبل غير واقع والخير الموعود به يحمد سرعة إنجازه وقلة مدة وقوعه فإن أهنا البر عاجله وهذا يناسب قلة حروفه وفي الوعيد يحمد تأخيره لحسن الخلف والعفو عنه فناسب كثرة حروفه ثم قال‏:‏ وهذا تحقيق في غاية الحسن وما عداه وهم فارغ فاعرفه والمراد بهؤلاء المقرنين المردة فتفيد الآية تفصيل الشياطين إلى عملة استعملهم عليه السلام في الأعمال الشاقة كالبناء والغوص ومردة قرن بعضهم ببعض بالجوامع ليكفوا عن الشر، وظاهره أن هناك تقييداً حقيقة وهو مشكل لأن الشياطين إما أجسام نارية لطيفة قابلة للتشكل، وإما أرواح خبيثة مجردة، وأياً ما كان لا يمكن تقييدها ولا إمساك القيد لها‏.‏ وأجيب باختيار الأول وهو الصحيح‏.‏

والأصفاد غير ما هو المعروف بل هي أصفاد يتأتى بها تقييد اللطيف على وجه يمنعه عن التصرف، والأمر من أوله خارق للعادة، وقيل‏:‏ إن لطافة أجسامهم بمعنى شفافتها والشفافة لا تأبى الصلابة كما في الزجاج والفلك عند الفلاسفة فيمكن أن تكون أجسامهم شفافة وصلبة فلا ترى لشفافتها ويتأتى تقييدها لصلابتها، وأنكر بعضهم الصلابة لتحقق نفوذ الشياطين فيما لا يمكن نفوذ الصلب فيه وأنهم لا يدركون باللمس والصلب يدرك به‏.‏

وقيل‏:‏ لا مانع من أنه عليه السلام يقيدهم بشكل صلب فيقيدهم حينئذٍ بالأصفاد والشيطان إذا ظهر متشكلاً بشكل قد يتقيد به ولا يمكنه التشكل بغيره ولا العود إلى ما كان، وقد نص الشيخ الأكبر محيي الدين قدس سره أن نظر الإنسان يقيد الشيطان بالشكل الذي يراه فيه فمتى رأى الإنسان شيطاناً بشكل ولم يصرف نظره عنه بالكلية لم يستطع الشيطان الخفاء عنه ولا التشكل بشكل آخر إلى أن يجد فرصة صرف النظر عنه ولو برمشة عين‏.‏

وزعم الجبائي أن الشياطن كان كثيف الجسم في زمن سليمان عليه السلام ويشاهده الناس ثم لما توفي عليه السلام أمات الله عز وجل ذلك الجن وخلق نوعاً آخر لطيف الجسم بحيث لا يرى ولا يقوى على الأعمال الشاقة، وهذا لا يقبل أصلاً إلا برواية صحيحة وأنى هي، وقيل‏:‏ الأقرب أن المراد تمثيل كفهم عن الشرور بالأقران في الصفد وليس هناك قيد ولا تقييد حقيقة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏39‏]‏

‏{‏هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ‏(‏39‏)‏‏}‏

‏{‏هذا عَطَاؤُنَا فامنن أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ‏}‏ إما حكاية لما خوطب به سليمان عليه السلام مبينة لعظم شأن ما أوتي من الملك وأنه مفوض إليه تفويضاً كلياً، وإما مقول لقول مقدر هو معطوف على ‏{‏سَخَّرْنَا‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 36‏]‏ أو حال من فاعله أي وقلنا أو قائلين له هذا الخ والإشارة إلى ما أعطاه مما تقدم أي هذا الذي أعطيناكه من الملك العظيم والبسطة والتسليط على ما لم يسلط عليه غيرك عطاؤنا الخاص بك فأعط من شئت وامنع من شئت غير محاسب على شيء من الأمرين ولا مسؤول عنه في الآخرة لتفويض التصرف فيه إليك على الإطلاق، فبغير حساب حال من المستكن في الأمر والفاء جزائية و‏{‏هذا عَطَاؤُنَا‏}‏ مبتدأ وخبر، والإخبار مفيد لما أشرنا إليه من اعتبار الخصوص أي عطاؤنا الخاص بك أو يقال‏:‏ إن ذكره ليس للإخبار به بل ليترتب عليه ما بعده كقوله‏:‏ هذه دارهم وأنت مشوق *** ما بقاء الدموع في الآماق

وجوز أن يكون ‏{‏بِغَيْرِ حِسَابٍ‏}‏ حالاً من العطاء نحو ‏{‏هذا بَعْلِى شَيْخًا‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 72‏]‏ أي هذا عطاؤنا متلبساً بغير حساب عليه في الآخرة أو هذا عطاؤنا كثيراً جداً لا يعد ولا يحسب لغاية كثرته، وأن يكون صلة العطاء واعتبره بعضهم قيداً له لتتم الفائدة ولا يحتاج لاعتبار ما تقدم، وعلى التقديرين ما في البين اعتراض فلا يضر الفصل به، والفاء اعتراضية وجاء اقتران الاعتراض بها كما جاء بالواو كقوله‏:‏ واعلم فعلم المرء ينفعه *** أن سوف يأتي كل ما قدرا

وقيل‏:‏ الإشارة إلى تسخير الشياطين، والمراد بالمن والإمساك إطلاقهم وإبقاؤهم في الأصفاد، والمن قد يكون بمعنى الإطلاق كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏ 4‏]‏ والأولى في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏بِغَيْرِ حِسَابٍ‏}‏ حينئذٍ كونه حالاً من المستكن في الأمر، وهذا القول رواه ابن جرير‏.‏ وابن أبي حاتم عن ابن عباس، وما روي عنه من أنه إشارة إلى ما وهب له عليه السلام من النساء والقدرة على جماعهن لا يكاد يصح إذ لم يجر لذلك ذكر في الآية، وإلى الأول ذهب الجمهور وهو اوظهر، وقرأ ابن مسعود ‏{‏هذا فامنن أَوْ أَمْسِكْ عَطَاؤُنَا بِغَيْرِ حِسَابٍ‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏40‏]‏

‏{‏وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآَبٍ ‏(‏40‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لزلفى‏}‏ لقربة وكرامة مع ماله من الملك العظيم فهو إشارة إلى أن ملكه لا يضره ولا ينقصه شيئاً من مقامه‏.‏

‏{‏وَحُسْنُ مَئَابٍ‏}‏ حسن مرجع في الجنة وهو عطف على ‏{‏زلفى‏}‏ وقرأ الحسن‏.‏ وابن أبي عبلة ‏{‏وَحَسُنَ‏}‏ بالرفع على أنه مبتدأ خبره محذوف أي له، والوقف عندهما على ‏{‏لزلفى‏}‏ هذا وأمر سليمان عليه السلام من أعظم الأمور وكان مع ما آتاه الله تعالى من الملك العظيم يعمل الخوص بيده ويأكل خبز الشعير ويطعم بني إسرائيل الحواري أخرجه أحمد في الزهد عن عطاء، وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال‏:‏ «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما رفع سليمان عليه السلام طرفه إلى السماء تخشعاً» حيث أعطاه الله تعالى ما أعطاه وكان في عصره من ملوك الفرس كيخسرو فقد ذكر الفقيه أبو حنيفة أحمد بن داود الدينوري في تاريخه أنه عليه السلام ورث ملك أبيه في عصر كيخسرو بن سباوش وسار من الشام إلى العراق فبلغ خبره كيخسرو فهرب إلى خراسان فلم يلبث حتى هلك ثم سار سليمان إلى مرو ثم إلى بلاد الترك فوغل فيها ثم جاوز بلاد الصين ثم عطف إلى أن وافى بلاد فارس فنزلها أياماً ثم عاد إلى الشام ثم أمر ببناء بيت المقدس فلما فرغ سار إلى تهامة ثم إلى صنعاء وكان من حديثه مع صاحبتها ما ذكره الله تعالى وغزا بلاد المغرب الأندلس وطنجة وغيرهما ثم انطوى البساط وضرب له بين عساكر الموتى الفسطاط فسبحان الملك الدائم الذي لا يزول ملكه ولا ينقضي سلطانه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏41‏]‏

‏{‏وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ ‏(‏41‏)‏‏}‏

‏{‏واذكر عَبْدَنَا أَيُّوبَ‏}‏ قال ابن إسحاق‏:‏ الصحيح أنه كان من بني إسرائيل ولم يصح في نسبه شيء غير أن اسم أبيه أموص، وقال ابن جرير‏:‏ هو أيوب بن أموص بن روم بن عيص بن إسحاق عليه السلام، وحكى ابن عساكر أن أمه بنت لوط وأن أباه ممن آمن بإبراهيم فعلى هذا كان عليه السلام قبل موسى، وقال ابن جرير‏:‏ كان بعد شعيب، وقال ابن أبي خيثمة‏:‏ كان بعد سليمان، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏اذكر‏}‏ الخ عطف على ‏{‏اذكر عَبْدَنَا دَاوُودُ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 17‏]‏ وعدم تصدير قصة سليمان عليه السلام بهذا العنوان لكمال الاتصال بينه وبين داود عليهما السلام، و‏{‏أَيُّوبَ‏}‏ عطف بيان لعبدنا أو بدل منه بدل كل من كل، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِذْ نادى رَبَّهُ‏}‏ بدل اشتمال منه أو من ‏{‏أَيُّوبَ‏}‏ ‏{‏إِنّى‏}‏ أي بأني‏.‏

وقرأ عيسى بكسر همزة ‏{‏إِنّى‏}‏ ‏{‏مَسَّنِىَ الشيطان‏}‏ وقرىء بإسكان ياء ‏{‏مَسَّنِىَ‏}‏ وبإسقاطها ‏{‏بِنُصْبٍ‏}‏ بضم النون وسكون الصاد التعب كالنصب بفتحتين، وقيل‏:‏ هو جمع نصب كوثن ووثن، وقرأ أبو جعفر‏.‏ وشيبة‏.‏ وأبو عمارة عن حفص‏.‏ والجعفي عن أبي بكر‏.‏ وأبو معاذ عن نافع بضمتين وهي لغة، ولا مانع من كون الضمة الثانية عارضة للاتباع، وربما يقال‏:‏ إن في ذلك رمزاً إلى ثقل تعبه وشدته، وقرأ زيد بن علي‏.‏ والحسن‏.‏ والسدي‏.‏ وابن أبي عبلة‏.‏ ويعقوب‏.‏ والجحدري بفتحتين وهي لغة أيضاً كالرشد والرشد، وقرأ أبو حيوة‏.‏ ويعقوب في رواية وهبيرة عن حفص بفتح النون وسكون الصاد، قال الزمخشري‏:‏ على أصل المصدر، ونص ابن عطية على أن ذلك لغة أيضاً قال‏:‏ بعد ذكر القراآت‏:‏ وذلك كله بمعنى واحد وهو المشقة وكثيراً ما يستعمل النصب في مشقة الاعياء‏.‏

وفرق بعض الناس بين هذه الألفاظ والصواب أنها لغات بمعنى من قولهم أنصبني الأمر إذا شق علي انتهى‏.‏

والتنوين للتفخيم وكذا في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَعَذَابٍ‏}‏ وأراد به الألم وهو المراد بالضر في قوله‏:‏ ‏{‏أَنّى مَسَّنِىَ الضر‏}‏‏.‏

وقيل‏:‏ النصب والضر في الجسد والعذاب في الأهل والمال، وهذا حكاية لكلامه عليه السلام الذي نادى به ربه عز وجل بعبارته وإلا لقيل إنه مسه الخ بالغيبة، وإسناد المس إلى الشيطان قيل على ظاهره وذلك أنه عليه اللعنة سمع ثناء الملائكة عليهم السلام على أيوب عليه السلام فحسده وسأل الله تعالى أن يسلطه على جسده وماله وولده ففعل عز وجل ابتلاءً له، والقصة مشهورة‏.‏

وفي بعض الآثار أن الماس له شيطان يقال له مسوط، وأنكر الزمخشري ذلك فقال‏:‏ لا يجوز أن يسلط الله تعالى الشيطان على أنبيائه عليهم السلام ليقضي من إتعابهم وتعذيبهم وطره، ولو قدر على ذلك لم يدع صالحاً إلا وقد نكبه وأهلكه، وقد تكرر في القرآن أنه لا سلطان له إلا الوسوسة فحسب، وجعل إسناد المس أليه هنا مجازاً فقال‏:‏ لما كانت وسوسته إليه وطاعته له فيما وسوس سبباً فيما مسه الله تعالى به من النصب والعذاب نسبه إليه، وقد راعى عليه السلام الأدب في ذلك حيث لم ينسبه إلى الله سبحانه في دعائه مع أنه جل وعلا فاعله ولا يقدر عليه إلا هو، وهذه الوسوسة قيل وسوسته إليه عليه السلام أن يسأل الله تعالى البلاء ليمتحن ويجرب صبره على ما يصيبه كما قال شرف الدين عمر بن الفارض

‏.‏ وبما شئت في هواك اختبرني *** فاختياري ما كان فيه رضاكا

وسؤاله البلاء دون العافية ذنب بالنسبة لمقامه عليه لا حقيقة، والمقصود من ندائه بذلك الاعتراف بالذنب‏.‏

وقيل إن رجلاً استغاثه على ظالم فوسوس إليه الشيطان بترك إغاثته فلم يغثه فمسه الله تعالى بسبب ذلك بما مسه‏.‏

وقيل‏:‏ كانت مواشيه في ناحية ملك كافر فداهنه ولم يغزه وسوسة من الشيطان فعاتبه الله تعالى بالبلاء، وقيل وسوس إليه فأعجب بكثرة ماله وولده فابتلاه الله تعالى لذلك وكل هذه الأقوال عندي متضمنة ما لا يليق بمنصب الأنبياء عليهم السلام‏.‏ وذهب جمع إلى أن النصب والعذاب ليسا ما كانا له من المرض والألم أو المرض وذهاب الأهل والمال بل أمران عرضا له وهو مريض فاقد الأهل والمال فقيل هما ما كانا له من وسوسة الشيطان إليه في مرضه من عظم البلاء والقنوط من الرحمة والإغراء على الجزع كان الشيطان يوسوس إليه بذلك وهو يجاهده في دفع ذلك حتى تعب وتألم على ما هو فيه من البلاء فنادى ربه يستصرفه عنه ويستعينه عليه ‏{‏أَنّى مَسَّنِىَ الشيطان بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ‏}‏ وقيل كانا من وسوسة الشيطان إلى غيره فقيل‏:‏ إن الشيطان تعرض لامرأته بصورة طبيب فقالت له‏:‏ إن ههنا مبتلى فهل لك أن تداويه فقال‏:‏ نعم بشرط أن يقول‏:‏ إذا شفيته أنت شفيتني فمالت لذلك وعرضت كلامه لأيوب عليه السلام فعرف أنه الشيطان وكان عليه ذلك أشد مما هو فيه ‏{‏فنادى رَبَّهُ أَنّى مَسَّنِىَ‏}‏ الخ؛ وقيل‏:‏ إن الشيطان طلب منها أن تذبح لغير الله تعالى إذا عالجه وبرأ فمالت لذلك فعظم عليه عليه السلام الأمر فنادى، وقيل‏:‏ إنه كان يعوده ثلاثة من المؤمنين فارتد أحدهم فسأل عنه فقيل له‏:‏ ألقى إليه الشيطان أن الله تعالى لا يبتلي الأنبياء والصالحين فتألم من ذلك جداً فقال ما قال وفي رواية مر به نفر من بني إسرائيل فقال بعضهم لبعض‏:‏ ما أصابه هذا إلا بذنب أصابه وهذا نوع من وسوسة الشيطان فعظم عليه ذلك فقال ما قال، والإسناد على جميع ما ذكر باعتبار الوسوسة، وقيل‏:‏ غير ذلك والله تعالى أعلم‏.‏ وقوله سبحانه‏:‏